« ليَعْلَمَ اللَّهُ » قيل : اللامُ متعلِّقةٌ ب « لَيَبْلُونَّكُمْ »، والمعنى : ليتميَّزَ أو ليظهر لكم، وقد مضى تحقيقُه في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضهم :« لِيُعْلِمَ » بضم الياء وكسر اللام من « أعْلَمَ »، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ، أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ، والمفعول الثاني هو قوله :« مَنْ يَخَافُهُ » فَ « أعْلَمَ » منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى « عَرَفَ » وهذا مجازٌ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ، واخْتَلَفُوا في معناه، فَقِيلَ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ، وقيل : لِيظهر المَعْلُوم، وهو خَوْفُ الخَائِفِ، وقيل : هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ : لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ، وقِيلَ : ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ.
وقوله تعالى :« بالغَيْبِ » أي : يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه، كقوله تعالى :﴿ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب ﴾ [ الأنبياء : ٤٩ ] أي : يَخَافُون، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ، وكقوله تعالى :﴿ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب ﴾ [ البقرة : ٣ ]، وقيل : معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي : بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين ﴿ إِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ ﴾ [ البقرة : ١٤ ]. قوله تعالى :« بالغَيْبِ » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « يَخَافُهُ »، أي : يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [ الآية ٣ ].
والمعنى : من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ، كقوله تعالى :﴿ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ [ ق : ٣٣ ].
وجوَّز أبو البقاء ثلاثة أوجه :
أحدها : ما ذكرناه.
والثاني : أنه حالٌ مِنْ « مَنْ » في « مَنْ يَخَافُهُ ».
والثالث : أنَّ الباءَ بمعنى « في »، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ، أي : يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف.
قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي : اصْطَادَ بعد تَحْرِيمِهِ، فله عذابٌ أليمٌ، والمراد : عذابُ الآخرة، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا.
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً، ويُنْتَزَع ثِيَابُه.
قال القَفَّالُ : وهذا غير جائزٍ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ﴾ [ النور : ٢ ]، وقال تعالى :﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب ﴾ [ النساء : ٢٥ ] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ ﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ [ النمل : ٢١ ].