وقال مكيٌّ بعد ما تقدَّم عنه :« ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ؛ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيْدِ المقْتُولِ » ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ؛ فإنَّ أكثر القراء عليها، وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجْوبةٍ سديدةٍ، لمَّا خفيتْ على أولئكَ طَعنُوا في المُتَوَاتِرِ، منْها : أنَّ « جَزَاء » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله؛ تخفيفاً، والأصلُ : فعليه جزاءٌ مِثْلُ ما قَتلَ، أي : أن يَجْزِيَ مثل ما قتلَ، ثم أُضيفَ، كما تقول :« عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْداً » ثم « مِنْ ضَرْبٍ زَيْدٍ » ذكر ذلك الزمخشريُّ وغيره، وبَسْطُ ذلك؛ أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء، والأصلُ : فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيْدِ مثله من النَّعَمِ، ثم حُذِف المفعولُ الأوَّلُ؛ لدلالة الكلامِ عليه، وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانيهما؛ كقولك :« زَيْدٌ فَقِيرٌ ويُعْجِبُنِي إعْطَاؤُكَ الدِّرْهم »، أي : إعطاؤكَ إيَّاه، ومنها : أنَّ « مِثْل » مُقْحَم؛ كقولهم :« مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ »، [ أي : أنْتَ لا تفعَلُ ذلك ] وأنَا أكْرِمُ مثلك أيْ : أنا أكْرِمُكَ، ونحو قوله تعالى :﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ] أي : بِمَا آمَنْتُمْ به، وكقوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ]، والتقديرُ ليس كهو شيءٌ ف « مِثْل » زائدةٌ. وقوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، ومِنْهَا أن يكونَ المعنى « فَجَزَاءٌ من مِثْلِ ما قَتَلَ من النَّعَم » كقولك :« خَاتِمُ فضَّة » أي :« خاتمٌ من فضةٍ »، وهذا خلاف الأصْلِ فالجوابُ ما تقدَّم و « مَا » يجوزُ أن تكون موصولةً اسميَّة، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ محذوفٌ على كلا التقديرين، أي : مثلُ ما قَتَلَهُ من النَّعَمِ.
فَمَنْ رفع « جَزَاء » ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه : فعليه جزاء.
والثاني : أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، تقديرُه : فالواجبُ جزاء.
والثالث : أنه فاعلٌ بفعل محذوف، أي : فيلزَمُه الجزاءُ، أو يَجِبُ عليه جزاءٌ.
الرابع : أنه مبتدأ وخبره « مِثْل »، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسْحَاق الزجَّاج، وتقدم أيضاً رفع « مِثْل » في قراءة الكوفيين؛ على أحدِ ثلاثةِ أوجه : النعْتِ، والبدلِ، والخبرِ؛ حيث قلنا :« جَزَاء » مبتدأٌ عند الزجَّاج.
وأمَّا قراءةُ « فَجَزَاؤه مِثْلُ »، فظاهرةٌ أيضاً، وأمَّا قراءة « فَجَزَاءٌ مِثْلَ » برفع « جَزَاءٌ » وتنوينه، ونصب « مِثْل »، فعلى إعمال المصدر المنوَّنِ في مفعوله، وقد تقدَّم أنَّ قراءة الإضافة منه، وهو نظيرُ قوله تعالى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ﴾ [ البلد : ١٤ - ١٥ ] وفاعلُه محذوف، أي : فجزاءُ أحدِكُمْ أو القاتلِ، أي : أنْ يُجْزَى القاتلُ للصَّيْدِ، وأما قراءة :« فَجَزَاءً مِثْلَ » بنصبهما ف « جَزَاءً » منصوبٌ على المصدر، أو على المفعول به، و « مِثْلَ » صفتُه بالاعتبارين، والتقدير : فَلْيَجْزِ جَزَاءً مِثْلَ، أو : فَلْيُخْرِجْ جَزاءً، أو فليُغَرَّمْ جَزَاءً مِثْلَ.


الصفحة التالية
Icon