والألفُ في « ذَوَا » علامةُ الرفع؛ لأنه مثنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظةِ وتصاريفها [ الآية ١٧٧ البقرة ]، وقرأ الجمهورُ :« ذَوَا » بالألف، وقرأ محمد بن جعفر الصادق :« ذُو » بلفظِ الإفراد، قالوا : ولا يريدُ بذلك الوَحْدة، بل يريدُ : يحكُمُ به مَنْ هو مِنْ أهْلِ العدل، وقال الزمخشريُّ :« وقيل : أراد الإمام » فعلى هذا تكونُ الوحْدَةُ مقصودةً، و « مِنْكُمْ » في محلِّ رفع صفةً ل « ذَوَا »، أي : إنهما يكونان من جنْسِكُمْ في الدِّين، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً ل « عَدْل » ؛ لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء، يعني : أن المصدرَ ليس مِنْ جنْسِهِمْ، فكيف يُوصَفُ بكونه منهم؟
فصل
المعنى يَحْكُمُ للجِزْاءِ رَجُلان عَدْلان قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد يَحُكم به في جَزَاءِ الصَّيْدِ رجُلانِ صالِحَان مِنْكُم، مِنْ أهلِ قِبْلَتِكُم ودينِكُمْ، فَقيهان عدْلان، فَيَنْظُرَان إلى أشْبَه الأشْيَاءِ من النَّعَم، فَيَحْكُمَان به، ومِمَّن ذَهَبَ إلى إيجَابِ المِثْلِ من النَّعَمِ : عُمَرُ، وعُثمَانُ، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْف، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وغَيْرِهِمْ من الصَّحَابَة حَكَمُوا في بُلْدَان مخْتَلِفَة، وأزْمان شَتَّى بالمِثْل من النَّعَمِ، فحكمَ حَاكِمُهُم في النَّعَامةِ بِبدَنَة، وهي لا تُسَاوي بَقَرَةً، وفي الضَّبعِ كَبْشٌ وهو لا يساوي كَبْشاً، فدلَّ على أنهم نَظَرُوا إلى ما يَقْرُب من الصَّيْد شَبَهاً من حَيْث الخِلْقَة.
ورُوِي عن عُمرَ، وعُثْمَان، وابن عباس : أنَّهم قَضَوْا في حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ.
ورَوَى جَابِر بنُ عبد اللَّه : أنَّ عُمَرَ بن الخَطَّابِ قَضَى في الضَّبعِ بكَبْشٍ، وفي الغَزَالِ بِعَنْزٍ، وفي الأرْنَبِ بِعنَاقٍ، وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ.
وقال مَيْمُونُ بن مَهْرَان : جاءَ أعْرَابيٌّ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه - فقال : إنِّي أصيْتُ من الصَّيْد كَذَا وكَذَا، فسَألَ أبُو بكرٍ أبَيَّ بن كَعْبٍ، فقال الأعْرَابِيُّ : أتَيْتُكَ أسْألُكَ، وأنْتَ تَسألُ غَيْرَك، فقال أبُو بَكْرٍ : وما أنكَرْت من ذلك؟ قال تعالى :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ فشاوَرْتُ صَاحِبي، فإذا اتَّفَقْنَا على شَيءٍ أمَرْناكَ بِهِ.
وعن قُبَيْصَة بن جَابِرٍ؛ أنه كان مُحْرِماً، فضرب ظْبياً فماتَ، فسأل عُمَرَ بن الخَطَّابِ، وكان إلى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْف، فقال عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَن : ما ترى، قال : عليه شاةٌ، قال : وأنا أرى ذَلِكَ، قال اذْهَبْ فأهْدِ شاةً، قال قُبَيْصَةُ : فَخَرَجْتُ إلى صَاحِبِي، وقُلْتُ : إنَّ أمير المُؤمنين لم يَدْرِ ما يقُولُ، حتى سألَ غَيْرَهُ.
قال فَفَجَأنِي عُمَرُ، وعلانِي بالدرَّة، وقال : أتَقْتُلُ في الحَرَمِ وتُسَفِّهُ الحُكْمَ؟ قال تعالى :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ فأنا عُمَرُ، وهذا عَبْدُ الرحمن بنُ عوف. واحْتَجَّ أبُو حنيفَة في إيجَابِ القيمة بأنَّ التَّقْوِيمَ هو المُحْتَاجُ إلى النَّظَرِ والاجتِهَادِ، وأما الخِلْقَةُ والصُّورةُ فَظَاهِرةٌ لا يُحْتَاجُ فيها إلى الاجتهاد.
وأجيبُ : بأنَّ المُشَابَهَة بَيْنَ الصَّيْد وبين النَّعَمِ مخْتَلِفَةُ وكَثِيرة، فلا بد من الاجْتِهَادِ في تَمْييزِ الأقْوَى عن الأضْعَفِ.