وهمُ اليَعْقُوبيَّة من النَّصارى، يقولون : المَسِيحُ هو الله، وهذا مذهب الحُلوليَّة، فإنَّهُم يَقُولُون : إنَّ الله تعالى قد يَحِلُّ في بدن إنْسَان معيَّن أو في رُوحِهِ، ثم إنَّه تعالى احَتَّج على فَسَادِ هذا المذْهَب بقوله تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ ﴾ [ الفاء عاطِفةٌ هذه الجملة على جُمْلة مقدَّرة قبلها، والتقدير : قل كَذَبُوا، أو ليس الأمْر ذكلك فَمَن يَمْلِك؟ ] وقوله :« مِنَ الله » فيه احتمالان :
أظهرهما : أنَّه متعلِّقٌ بالفِعْلَ قَبْلَه.
والثاني : ذكره أبُو البقاء : أنَّه حالٌ من « شَيئاً »، يعني : من حَيْثُ إنَّه كان صِفَةً في الأصْلِ للنَّكرة، فقدَّم عليها [ فانْتَصَب حالاً ]، وفيه بُعْدٌ أو مَنْعٌ.
وقوله « فَمَنْ » استفهامُ تَوْبِيخٍ وتقرير وهو دالٌّ على جواب الشَّرْط بعدَهُ عند الجُمْهُور.
قوله :﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ وهذه جُمْلَةٌ شرطيَّةٌ قُدِّم فيها الجزاءُ على الشَّرْط، والتَّقْدير : إن أرَاد أن يَهْلِكَ المسيحَ ابن مَرْيَم وأمَّهُ ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر أن يَدْفَعَهُ عن مُرَادِهِ ومَقْدُوره.
وقوله :﴿ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً ﴾ أي : فَمَنْ يَمْلِكُ من أفْعَال الله شَيْئاً، والمُلْكُ هو القُدْرة، أي : فمن الذي يَقْدِر على دَفْعِ شَيْءٍ من أفْعال الله.
وقوله ﴿ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾، يعني : أنَّ عيسى مُشَاكِلٌ من في الأرْض في القُدْرة والخِلْقَة والتَّركيب وتغْيِير الأحوال والصِّفات، فلما سلّمتم كَوْنَهُ تعالى خَالِقاً للكُلِّ، وَجَبَ أن يكون خَالِقاً لِعيسى.
قوله :﴿ وَمَن فِي الأرض ﴾ من باب عَطْفِ التَّامِّ على الخاصِّ، حتى يبالغ في نفي الإلهيَّة عنهما، فكأنَّه نَصَّ عليهما مَرَّتَيْن؛ مرَّة بذِكْرِهما مُفْرَدَيْن، ومرَّة بانْدِرَاجِهما في العُمُوم.
و « جميعاً » : حالٌ من المسيحِ وأمّه ومَنْ في الأرض، أو مِنْ « مَنْ » وحدَهَا لعُمُومها.
ويجُوز أن تكون مَنْصُوبَةً على التَّوْكِيد مثل « كل »، وذكرهَا بعض النُّحاة من ألْفَاظ التوكيد.
ثم قال :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ ثم قال :« ومَا بَيْنَهُمَا »، ولم يقل : بَيْنَهُنَّ؛ لأنَّه ذهب بذلك مذهب الصِّنْفَيْن والنَّوْعَيْن.
وقوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ جُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعْراب لاسِئْنَافِها، وفي مَعْنَاها وجْهان :
الأول : يَخْلُقُ ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنْثَى كما هو مُعْتَاد، وتارة لا من الأب والأم كما في [ حقِّ آدم ]، وتارة من الأمِّ لا من الأب كما في حقِّ عيسى - عليه السلام -.
والثاني :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ يعني : أنَّ عيسى إذا قدر صور الطير من الطِّين، فالله يَخْلُق فيه الحَيَاة والقُدْرَة مُعْجِزةً لِعيسَى، وتارَةً يُحْيِي المَوْتَى، وتارة يُبْرِئ الأكْمَهَ والأبْرَص مُعْجِزةٌ لَهُ، [ ولا اعتراض على الله ] في شيء من أفْعْالِهِ، ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.


الصفحة التالية
Icon