ورُوِيَ أنَّ عُمَر قال :« يا رسُول الله، أنا حَدِيثُ عُهْدٍ [ بجاهلية ]، فاعفُ عنَّا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكَ، فسكَنَ غَضَبُهُ ».
وروى ابْنُ عبَّاسٍ قال : كان قومٌ يَسْألُون رسُول الله ﷺ استهْزَاءً، فيقول الرجل مَنْ أبِي؟ ويقولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أين نَاقَتِي؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية.
ورُوِيَ عن عَلِيٍّ بن أبِي طالبٍ - رضي الله عنه - قال : لمَّا نزلت ﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، قال سُرَاقَةُ بن مالكٍ :- « ويروى عكاشَةُ بن محصن - يا رسُول اللَّهِ أفي كُلِّ عامٍ؟ فأعْرَضَ عنهُ، فعاد مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثاً، فقال رَسُول الله ﷺ » مَا يُؤمنكَ أنْ أقُولَ : نَعَمْ، واللَّهِ لو قُلْتُ : نَعَمْ لوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبَتْ ما استطعْتُم، فاتْركُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِم، واخْتِلافِهِم على أنْبِيَائِهم، فإذا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُم عَنْ شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ « فأنْزَل اللَّهُ هذه الآية.
فإنَّ من سألَ عن الحَجِّ لَمْ يَأمَنْ أنْ يُؤمَرَ به في كُلِّ عامٍ فَيَسُوؤه، ومن سألَ عن نَسَبِهِ لمْ يَأمَنْ أن يُلْحِقَه بِغيرِهِ، فَيَفْتَضِحَ.
وقال مُجَاهِد : نزلت حين سَألُوا رسُول اللَّهَ إنْ أحَلَّ أحِلُّوا، وإن حرَّمَ اجْتَنِبُوا، ولو تَرَكَ بين ذلك أشياءَ لم يُحَلِّلْهَا ولمْ يُحَرِّمها، فذلك عَفْوٌ من اللَّهِ، ثمَّ يَتْلُو هذه الآية.
وقال أبُو ثَعْلَبَة الخشني : إنَّ اللَّه إنْ أحَلَّ تعالى بيَّنَ في الآية الأولى فرضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعُوهَا، ونَهَى عن أشياء فلا تَنْتَهِكُوهَا، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وعَفَا عن أشْيَاءَ من غير نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عنها، ثم إنَّ تلك الأشياء التي سألُوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم.
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :»
إن من أعْظَمِ المُسْلِمين في المُسْلِمين جُرْماً، من سألَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحرَّم فَحُرِّم من أجْلِ مَسْألَتِهِ «.
وقوله :﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ ﴾ معناه : إن صَبَرْتُمْ حتَّى [ ينزل ] القرآنُ بحكم من فرضٍ أو نهيٍ، وليسَ في ظاهرهِ شَرْح ما بكم فيه حَاجَةٌ، ومَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إليه، فإذَا سَألْتُم عَنْهَا حينئذْ تُبْدَ لَكُم ﴿ عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾.
واعلم أنَّ السُّؤالَ على قسمَيْن :
أحدهما : السُّوالُ عن شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ ذكْرُه في الكتابِ والسُّنَّة بوجه من الوُجُوه، فهذا السُّؤالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لهذه الآية.
والقسم الثاني : السُّؤال عن شيء نزل به القُرآنُ، لكنَّ السَّامِع لَمْ يَفْهَمْهُ كما يَنْبَغِي، فَههُنَا يَجِبُ السُّؤالُ عنه، وهُوَ مَعْنَى قوله :﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ ﴾.
والفائِدَةُ في ذِكْرِ هذا القسْمِ؛ أنَّه لما منعَ في الآيَةِ الأولَى من السُّؤالِ، أوْهَمَ أنَّ جَمِيع أنْوَاع السُّؤال مَمْنُوع منه، فذكرَ ذلك تَمْيِيزاً لهذا القِسْمِ عن ذَلِكَ.
فإن قيل : قوله :﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا ﴾، هذا الضَّمِيرُ عائدٌ إلى الأشياء المذكُورَة في قوله :﴿ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ ﴾، فكيف يُعقلُ في »
أشْياء « بأعْيَانِهَا أن يكون السُّؤال عنهَا مَمْنُوعاً وجَائِزاً معاً؟.


الصفحة التالية
Icon