لمَّا بين أنَّ هؤلاء الجُهَّالِ لم ينتَفِعُوا بِشَيءٍ ممَّا تقدَّم من التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، بل بَقُوا مُصِرِّين على جَهْلهم وضَلالِهم، قال : فَلا تُبَالوا أيّها المُؤمِنُون بجهالاتِهِم، بل كُونُوا مُنْقَادِين لتَكَالِيفِ اللَّهِ تعالى، فلا يضُّرُّكم ضلالَتُهُم.
قوله :« عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ » : الجمهورُ على نَصْب « أنْفُسَكُمْ » وهو منصوب على الإغْرَاء ب « عَلَيْكُمْ » ؛ لأنَّ « عَلَيْكُمْ » هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ التقديرُ : الزمُوا أنْفُسَكُمْ، أي : هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها، ف « عَلَيْكُمْ » هنا يرفعُ فاعلاً، تقديره : عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوعٌ؛ نحو :« عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ » ؛ كأنك قُلْتَ : الزَمُوا أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو : إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى عن العرب « عَلَى عَبْدِ الله » بجرِّ « عَبْدِ الله » وهو نصٌّ في المسألة، وذهب الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما، أعني « عَلَى » وما بعدها كهذه الآية، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه.
وقال أبو البقاء - بعد أن جعل « كُمْ » في موضع جرّ ب « عَلَى » بخلافِ « رُوَيْدَكُمْ » - :« فإن الكاف هناك للخطَابِ، ولا موضع لها، فإن » رُوَيْد « قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ، وكذا قوله تعالى :﴿ مَكَانَكُمْ ﴾ [ يونس : ٢٨ ] » كُمْ « في محل جَرٍّ »، وفي هذه المسألة كلامٌ طويلٌ، صحيحُه أنَّ « رُوَيْد » تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه.
قال ابنُ الخطيب : قال النَّحْوِيُّونَ :« عَلَيْك، وعِنْدَك، ودُونَك » من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول، ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ، وينصِبُون بِهَا، فإذا قال :« عَلَيْك [ زيداً ] » كأنه قال : خُذْ زيْداً [ فقد عَلاَك، أي أشْرَفَ عليْك ]، وعِنْدَك زَيْداً، أي : حَضَرَك فَخُذْهُ، و « دُونَك » أي : قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا.
وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ :« أنْفُسُكُمْ » رفعاً فيما حكاه عنه صاحبُ « الكشَّاف »، وهي مُشْكَلِةٌ، وتخريجُها على أحد وجهين : إمَّا الابتداء، و « عَلَيْكُمْ » خبره مقدَّم عليه، والمعنى على الإغْراء أيضاً؛ فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة، ومنه قراءةُ بعضهم ﴿ نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا ﴾ [ الشمس : ١٣ ]، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء.
والثاني من الوجهين : أن تكون توكيداً للضميرِ المُستترِ في « عَلَيْكُمْ » ؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه : عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ.


الصفحة التالية
Icon