والثاني : أنه لا محلَّ له؛ لاستئنافهِ، وإليه ذهب الزمخشريُّ؛ قال :« فإنْ قلت : ما موقعُ قوله :» تَحْبِسُونَهُمَا « ؟ قلتُ : هو استئنافُ كلام، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما : فكيفَ نَعْمَلُ، إن ارتَبْنَا فيهمَا؟ فقيل : تَحْبِسُونَهُمَا »، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها، وقال :« بعد اشتراط العدالة » ؛ بناءً على مختاره في قوله :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾، أي : أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب.
قال أبو حيان :« في قوله :» إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُْ « إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جرى على لفظ ﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ﴾، لكان التركيب : إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ، فأصابته، وإنما جاء الالتفاتُ جمعاً؛ لأنَّ » أحَدَكُمْ « معناه : إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ »، وفيه نظرٌ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله :﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ إلى آخره، وقال ابن عبَّاس :« في الكلام حذفٌ، تقديرُه : فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء »، وعن سعيد بن جُبير : تقديره « وقد أُوصيتُم »، قال بعضُهُم :« هذا أوْلَى؛ لأنَّ الوَصِيَّ يَحْلِفُ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ ». والخطابُ في « تَحْبِسُونَهُمَا » لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه، و « مِنْ بَعْدِ » متعلِّق ب « تَحْبِسُونَهُمَا »، ومعنى الحَبْسِ : المنعُ، يقال : حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ، ويقال لمصْنَعِ الماءِ :« حَبْسٌ » ؛ لأنه يمنعه، ويقال :« حَبَّسْتُ » بالتشديد أيضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل؛ نحو :« حَبَّسْتُ الرِّجَالَ »، والألف واللام في « الصَّلاة » فيها قولان :
أحدهما : أنها للجنْس، أي : بعد أيِّ صلاة كانت.
والثاني - وهو الظاهر - أنها للعَهْد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
فصل
معنى الآية : أنَّ الإنْسَان إذا حَضَرَهُ المْوتُ، أنْ يُشهِدَ اثنين ذَوَيْ عدلٍ أي : أمَانةٍ وعَقْلٍ.