« الأرْواح جُنُودُ مُجَنَّدةٌ »، فاللَّهُ تعالى خصَّ عيسى - ﷺ - بالرُّوح الطَّاهِرة النُّورَانِيَّة المُشْرقَة العُلويَّة الخيِّرةِ، ولقائل أن يقول : لما دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ تأييد عيسى إنَّما حَصَلَ من جِبْرِيل، أو بسبَبِ رُوحِهِ المُخْتَصَّةِ، وهذا يَقْدَحُ في دلالةِ المُعْجِزَات على صِدْقِ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام -، ولم تُعْرفُ عِصْمَة الرُّسُل - عليهم السلام - قَبْلَ العِلْمِ بعصْمَةِ جبريل - ﷺ - فيلزم الدَّوْر.
فالجواب : قال ابن الخطيب : ثبت من أصْلِنَا أنَّ الخَالِقَ ليْسَ إلاَّ اللَّهُ، وبه يَنْدَفِعُ السُّؤال.
قوله :﴿ تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً ﴾ معناه : يُكَلِّمُ النَّاس في المَهْدِ صَبِيًّا، وكَهْلاً نبياً.
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : أرسلهُ اللَّهُ وهو ابنُ ثلاثينَ فَمَكَث في رسالته ثلاثين شَهْراً، ثُمَّ إنَّ الله رَفَعَهُ إلَيْهِ.
قال المُفَسِّرُون : يُكَلِّم النَّاسَ في المَهْد وكَهْلاً، في مَوْضِع الحال، والمعنى : يُكلِّمُ النَّاسَ طِفْلاً وكَهْلاً من غير أن يتفاوت كلامُهُ في هذين الوقْتَيْن، وهذه خَاصَّةٌ شَرِيفَةٌ لم تَحْصُلْ لأحدٍ من الأنْبِيَاء، وقد تقدَّم الكلام في [ الآية ٤٦ ] آل عمران، ما فائدة قوله :﴿ فِي المهد وَكَهْلاً ﴾.
قوله :﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ قيل : الكِتَابُ، الشَّريعةُ، وقيل : الخَطُّ، وأمَّا الكَلِمَةُ فقيل : هي العِلْمُ والفَهْمُ، وذكر التَّوْراة والإنجيلَ بعد الكِتَاب على سَبيلِ التَّشْرِيف، كقوله - تبارك وتعالى - :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ]، وقوله :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ]، فإنَّما ذكر التَّوراة والإنجيلَ بعد ذِكْرِ الكتابِ؛ لأنَّ الاطِّلاع على أسْرَار الكُتُبِ الإلهِيَّة لا يحصلُ إلاَّ لمن كانَ ثَابِتاً في أصْنَافِ العُلُوم الشَّرْعِيَّةِ والفِعْلِيَّة.
فقوله :« التَّوْراة والإنْجِيلَ » : إشارةٌ إلى الأسْرَار التي لا يطَّلِعُ عليْهَا أحدٌ إلاَّ الأكَابِرَ من الأنْبِيَاء.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾.
قرأ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - :« فَتَنْفُخُهَا » بحذف حرف الجر اتساعاً وقرأ الجمهور :« فتكونُ » بالتاء منقوطةً فوقُ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي : فيكونُ المنفوخُ فيه، والضمير في « فِيهَا » قال ابن عطيَّة - رحمه الله - :« اضطربَتْ فيه أقوال المفسِّرين » ؛ قال مكيٌّ :« هو في آل عمران [ الآية ٤٩ ] عائدٌ على الطَّيْر، ولا على الطين، ولا على الهيئة؛ لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطِّين على هيئته، لا يُنْفَخُ فيه ألبتة، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصَّة به، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطينُ العامُّ، ولا نفخَ في ذلك »، وقال الزمخشريُّ رحمه الله :« ولا يرجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛ لأنها ليست من خَلْقِه، ولا مِنْ نفخه في شيء، وكذلك الضميرُ في فَتَكُون »، ثم قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - :« والوجهُ عودُ ضميرِ المؤنَّث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً، أي : صُوَراً، أو أشكالاً، أو أجْساماً، وعودُ الضمير المذكَّر على المخلوقِ المدلولِ عليه ب » تَخْلُقُ «، ثم قال :» ولَكَ أن تعيدَهُ على ما تَدُلُّ عليه الكافُ من معنى المثل؛ لأنَّ المعنى : وإذ تَخْلُقُ من الطِّينِ مثل هيئته، ولك أن تعيده على الكاف نَفْسِهَا، فتكون اسماً في غيرِ الشِّعْر «.