من قال : إنهم كانُوا أنْبِيَاء، قال : المُرَادُ هذا الوَحْيُ الذي يُوحَى إلى الأنبياء، ومن قال : إنَّهُمْ ما كانوا أنْبِيَاء، قال : المُرَادُ بذلك : الوَحْيُ والإلْهَام، كقوله :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى ﴾ [ القصص : ٧ ] وقوله :﴿ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل ﴾ [ النحل : ٦٨ ]، وإنما ذُكِرَ هذا في مَعْرضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ؛ لأنَّ صَيْرُورة الإنْسَان مقبُولَ القَوْل عِنْدَ النَّاسِ، محبوباً في قُلوبِهِم من أعْظَمِ نِعَمِ اللَّه - تبارك وتعالى - على الإنسان، وذكر - تبارك وتعالى - إنَّما ألْقَى ذلك الوحي في قلوبهم فآمَنُوا وأسْلَمُوا، وإنَّما قدَّم ذِكْرَ الإيمان على الإسْلام؛ لأنَّ الإيمان صِفَةُ القَلْبِ والإسلام عبارةٌ عن الانْقِيادِ والخُضُوع في الظَّاهِرِ، يعني : آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وانْقَادُوا بِظَواهِرِهِم.
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر في الآية :﴿ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] أنَّ جميعَ ما ذكر اللَّهُ - تعالى - من النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وليس لأمِّهِ بشيء منها تَعَلُّقٌ.
فالجوابُ : كُلّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ من النِّعَمِ الجَلِيلَةِ، والدَّرَجَات العالِيةَ، فهو حَاصِلٌ للأمِّ على سبيلِ التضمّنِ والتَّبع، قال - تبارك وتعالى - :﴿ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [ المؤمنون : ٥٠ ]، فجعلهما معاً آيَةً واحِدَةً؛ لشِدَّةِ اتِّصَال كُلِّ واحدٍ مِنْهُما بالآخر.
رُوِي أنَّهُ - تعالى - لمَّا قال لعيسى :﴿ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] من لِبْسِ الشَّعْرِ وأكْلِ الشَّجَرِ، لم يَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَد، ويقول مع كل يومٍ رِزْقُهُ، ولم يَكُنْ له بَيْتٌ فَيُخَرَّب، ولا وَلدٌ فَيَمُوت، أيْنَمَا أمْسَى باتَ.
قوله تعالى :﴿ أَنْ آمِنُواْ بِي ﴾ : في « أنْ » وجهان :
أظهرهما : أنها تفسيرية؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القولِ، لا حروفه.
والثاني : أنها مصدريَّةٌ بتأويلٍ متكلَّف، أي : أوْجبْتُ إليهم الأمر بالإيمان، وهنا قالوا « آمَنَّا » ولم يُذْكَر المُؤمنُ به، وهناك ﴿ آمَنَّا بالله ﴾ [ آل عمران : ٥٢ ] فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذكرُ الله تعالى فقط، فأُعيدَ المؤمَنُ به، فقيل :« بالله » وهنا ذُكِرَ شيئان قبل ذلك، وهما :﴿ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ﴾، فلم يُذْكَر؛ ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ، وهنا قال « بأنَّنَا » وهناك قال « بِأنَّا » بحذف « نَا »، وقد تقدَّم غيره مرة : أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيءَ هنا بالأصل؛ لأنَّ المُؤمنَ به متعدِّدٌ، فناسَبَه التأكيد. _@_


الصفحة التالية
Icon