أي : أكْلُ تبرُّكٍ، لا أكْلُ حَاجَةٍ، وقال المارودِي : لأنَّهم لما احْتَاجُوا لم يُنْهَوا عن السُّؤال، وقيل : أرَادُوا الأكْلَ للحَاجَةِ.
وقوله :« وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا » أي : إنَّا وإنْ عَلِمْنَا قُدْرةَ الله تعالى بالدَّليل، ولكنَّا إن شاهدنا نُزُولَ هذه المَائِدة ازداد اليقين، وقويت الطُّمَأنِينَةُ.
وقيل : المَعْنَى إنَّا وإن عَلِمْنَا صِدْقَكَ بِسَائِر المُعْجِزَات، ولكن إذا شَاهَدْنَا هذه المُعْجِزَة ازدَادَ اليَقِينُ والعِرْفَان، وهذا مَعْنَى قوله :﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ : أنَّك رَسُولُ اللَّهِ.
قيل : إنَّ عيسَى ابن مَرْيم أمَرَهُمْ أن يَصُومُوا ثلاثين يَوْماً، فإذا أفْطَرُوا لا يَسْألُون الله شيئاً إلاَّ أعْطَاهُمْ، ففعلوا وسألُوه المَائِدَةَ، وقالوا :﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ في قولك :« إنَّا إذا صُمْنَا ثلاثين يَوْماً لا نَسْألُ الله شَيْئاً إلاَّ أعْطَانَا ».
وقيل : إنَّ جميعَ المُعْجِزَات التي أوْرَدْتَهَا كانت مُعْجَزَات أرْضِيَّة، وهذه سَمَاوِيَّة، وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ، ﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين ﴾ نَشْهَدُ عليها عِنْد الذين لم يَحْضُرُوها من بَنِي إسرائيل، ويَكُونُوا شَاهِدِين لله تعالى بِكَمَال القُدْرَة.
وقرأ الجمهور :« وَنَعْلَمَ » : و « نَكُون » بنون المتكلم مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن جُبَيْر - رضي الله عنه - فيما نقله عنه ابن عطيَّة - « وتُعْلَم » بضمِ التاء على أنه مبنيٌّ للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب، أي : وتُعْلَمَ قُلُوبُنَا، ونُقِلَ عنه « وَنُعْلَمَ » بالنون مبنيًّا للمفعول، وقرئ :« وَيُعْلَمَ » بالياء مبنيًّا للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل :﴿ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ أي : ويُعْلَمَ صِدْقُكَ لنا، ولا يجوزُ أن يكُون الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوبِ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى المؤنَّثِ المجازيِّ، ولا يجوزُ تذكيرُ فِعْلِ ضميره، وقرأ الأعمشُ :[ « وتَعْلَمَ » ] بتاءٍ والفعلُ مبنيٌّ للفاعل، وهو ضمير القُلُوبِ، ولا يجوزُ أن تكون التاءُ للخطاب؛ لفسادِ المعنى، وروي :« وتِعْلَمَ » بكسر حرف المضارعة، والمعنى على ما تقدَّم، وقُرِئ :« وتكونَ » بالتاء والضمير للقلوب.
و « أنْ » في ﴿ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ مخفَّفةٌ، واسمُها محذوفٌ، و « قَدْ » فاصلةٌ؛ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرِّفةٌ غيرُ دُعَاءٍ، وقد عُرِفَ ذلك مما تقدَّم في قوله :﴿ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [ المائدة : ٧١ ]، و « أنْ » وما بعدها سادَّةٌ مسدَّ المفعولَيْن، أو مَسَدَّ الأول فقط، والثاني محذوفٌ، و « عَلَيْهَا » متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه « الشَّاهدين »، ولا يتعلَّقُ بما بعده؛ لأن « ألْ » لا يَعْمَلُ ما بعدها فيما قبلها عند الجمهور، ومنْ يُجِيزُ ذلك يقول :« هو متعلِّقٌ بالشاهدينَ، قُدِّم للفواصِل ». وأجاز الزمخشريُّ أن تكون « عَلَيْهَا » حالاً؛ فإنه قال :« أو نَكُونَ من الشاهدينَ لله بالوحدانيَّة، ولك بالنبوَّةِ عاكِفِينَ عليها، على أن » عَلَيْهَا « في موضع الحال » فقوله « عَاكِفينَ » تفسيرُ معنًى؛ لأنه لا يُضْمَرُ في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة. وقرأ اليمانيُّ :« وإنَّهُ » ب « إنَّ » المشدَّدة، والضميرُ : إما للعيد، وإما للإنزال.
وبهذا لا يَرِدُ عليه ما قاله أبو حيان - رحمه الله تعالى - فإنه غابَ عليه ذلك، وجعله متناقِضاً؛ من حيث إنه لَمَّا عَلَّقَهُ ب « عَاكِفِينَ » كان غيْرَ حال؛ لأنه إذا كان حالاً، تعلَّقَ بكون مُطْلَقٍ ولا أدْرِي ما معنى التناقُض.