الثالث : أنها ضميرُ المصدرِ المؤكِّد؛ نحو :« ظَنَنْتُهُ زَيْداً قَائِماً »، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجه، اعترضَ على نفسه، فقال :« فإنْ قلْتَ :» لا أعَذِّبهُ « صفةٌ ل » عَذَاب «، وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصُوف شَيْءٌ، قيل : إنَّ الثانِيَ لما كان واقعاً موقعَ المصدر والمصدرُ جنْسٌ، و » عَذَاباً « نكرةٌ، كان الأوَّل داخِلاً في الثاني، والثاني مشتملٌ على الأوَّل، وهو مثل : زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ ». انتهى، فجعل الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذكرهُ من أنَّ الربْطَ بالعمومِ، إنما ذكره النحويُّون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ، ولذلك نظَّره أبو البقاء ب « زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ »، وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه؛ لأن الربطَ يحصُلُ في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذكره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفةٌ ل « عَذَاباً »، وليس فيها ضميرٌ، فإن قيل : ليست هناك بصفة، قيل : يَفْسُدُ المعنى بتقدير الاستئناف، وعلى تقدير صحَّته، فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً، و « أحَداً » منصوبٌ على المفعُول الصريحِ، و « مِنَ العَالمِينَ » صفةٌ ل « أحداً » فيتعلَّق بمحْذُوف.
فصل في معنى الآية
معنى الآية الكريمة ﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ ﴾ أي : بَعْد إنْزَال المَائِدَة، ﴿ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين ﴾ أي : جنس عذابٍ لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمين - يعني : على زمانه - فَجَحَد القَوْمُ وكَفَرُوا بعد نُزُولِ المَائِدَة.
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : مُسِخُوا خَنَازِير، وقيل : قِرَدَةً، وقيل : جِنْساً من العَذَابِ، لا يُعذَّبُ به غَيْرُهُم.
قال الزَّجَّاج : ويجُوزُ أن يكون ذَلِكَ العذابُ مُعَجَّلاً في الدُّنْيا، ويجُوزُ أن يكُون مُؤخَّراً في الآخِرَةِ.
قال عَبْدُ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - :« أنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُنَافِقُونَ، ومن كَفَر مِنْ أصْحَابِ المائدةِ وآلُ فِرْعَوْن ».
واخْتَلَف العُلَماءُ - رضي الله تعالى عنهم - هَلْ نَزَلَتْ أمْ لا؟.
فقال مُجَاهِد، والحَسَن : لم تَنْزِلْ، فإنَّ الله تعالى لَمَّا أوْعَدَ على كُفْرِهم بَعْد نُزُولِ المائدة خافُوا أن يَكْفُر بَعْضُهُم، فاستعفوا وقالوا : لا نُرِيدُهَا؛ فلم تَنْزِلْ. وقوله :﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ - يعني : إن سَألْتُم، والصَّحِيحُ الذي عَلَيْه الأكْثَرُون : أنَّها نَزَلَتْ لقوله تعالى :﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ ولا خُلْفَ في خبره، ولِتَوَاتُرِ الأخْبَارِ فيه عن رسُول الله ﷺ أنَّها نَزَلَت.
وقيل لهم : إنَّها مُقِيمَةٌ لكم ما لم تَخُونُوا وتخبؤوا؛ فما مضَى يومها حتَّى خَانُوا وخَبُّئوا، فَمسخُوا قِرَدَةً وخَنَازير.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إنَّ عيسى - عليه السلام - قال لهم : صُومُوا ثلاثينَ يَوْماً، ثم سَلُوا اللَّه ما شِئْتُم يُعْطِيكُمْ، فَصَامُوا، فلمَّا فَرغُوا قالوا : يا عيسى : إنَّا لو عَمِلْنَا لأحدٍ قَضَيْنَا عَمَلَهُ لأطْعَمَنَا، وسَألُوا اللَّهَ المَائِدَة، فأقْبَلَتِ المَلائِكَةُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بمائدةٍ يحمِلُونَهَا، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أرْغِفَةٍ وسَبْعَة أخْوَان، حتَّى وضعتْهَا بين أيْدِيهِمْ، فأكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم.