والوجه الثاني في خبر « لَيْسَ » : أنه « بِحَقٍّ »، وعلى هذا، ففي « لِي » ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه « يَتَبيَّنُ » ؛ كما في قولهم :« سُقْياً لَهُ »، أي : فيتعلَّقُ بمحذوف.
والثاني : أنه حالٌ من « بِحَقٍّ » ؛ لأنه لو تأخَّر، لكان صفةً له، قال أبو البقاء :« وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه » [ قلتُ : قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه ]، وما أوردوه من الشواهد، وفيه أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ، فإنَّ « بِحَقٍّ » هو العاملُ؛ إذ « لَيْسَ » لا يجوز أن تعمل في شيء، وإن قلنا : إنَّ « كان » أختها قد تعمل لأن « لَيْسَ » لا حدثَ لها بالإجماع.
والثالث : أنه متعلِّقٌ بنفسِ « حَقّ » ؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ، و « حَقّ » بمعنى « مُسْتَحقّ »، أي : ما لَيْسَ مستحِقًّا لي.
فصل
اعلم : أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام - أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ، أو : ما قُلْتُ، بل قال : ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين :
أحدهما : تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه.
والثاني : خُضُوعاً لِعِزَّتِه، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ.
ثُمَّ قال :﴿ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ أي : أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني : أنِّي مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ، وعَابِدٌ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ، ولمَّا بيَّن أنَّه ليس له أنْ يقول هذا الكلام، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ لا؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ، فقال :« إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ »، وهذا مُبالغَةٌ في الأدبِ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ، وتَفْوِيض الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى -.
قوله :﴿ إن كنت قلته ﴾ :« كنت » وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير : إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر، وقدَّره الفارسي بقوله :« إن أكن الآن قلتُه فيما مضى » لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل. وقوله :« فقد عَلِمْتَ » أي : فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله :﴿ فَصَدَقَتْ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] و ﴿ فَكَذَبَتْ ﴾ [ يوسف : ٢٧ ] و ﴿ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار ﴾ [ النمل : ٩٠ ].
قوله تعالى :﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب ﴾.