الثالث : أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في « الصادقين » أي : الذين صدقوا صدقهم، مبالغةً نحو :« صدقْت القتال » كأنك وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع : أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل : الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول :« صَدَق الصدقَ »، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ « ينفع » ضمير يعود على الله تعالى.

فصل في معنى الآية


أجْمَعُوا على أنَّ المُرادَ بِهَذَا اليَوْمِ هو يَوْمُ القِيَامةِ، والمَعْنَى : أنَّ صِدْقَهُم في الدُّنْيَا يَنْفَعُهُم في الآخِرَةِ؛ لأنَّ صِدْق الكُفَّار في القيامَةِ لا يَنْفَعُهُم، ألا ترى أنَّ إبْلِيس قال :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]، فَلَمْ يَنْفَعْهُ هذا الصِّدقُ، وهذا الكلامُ تَصْدِيقٌ من اللَّهِ تعالى لعيسى في قوله :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ [ المائدة : ١١٧ ].
وقيل : أرَادَ بالصَّادِقِين النَّبِيِّين.
وقال الكَلْبِيُّ : يَنْفَعُ المُؤمنين إيمانُهُمْ.
وقال قَتَادةُ : مُتَكَلِّمَان يَخْطُبَانِ يَوْمَ القيامةِ : عيسى - ﷺ -، وهو ما قَصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - وعَدُوُّ الله إبْلِيس، وهو قوله :﴿ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] فَصَدَقَ عَدُوُّ الله يومئذٍ، وكان قَبْلَ ذلك كَاذِباً، فلم يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ، فأمَّا عيسى - عليه السَّلام - فكان صَادِقاً في الدُّنْيَا والآخِرَة فَنَفَعَهُ صِدْقُه.
وقال بَعْضُهُمْ : المرادُ صِدْقُهُمْ في العملِ للَّهِ في يومٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ دَارَ الآخِرَة دارُ جَزَاءٍ لا دار عَمَلٍ.
وقيل : المراد صِدْقُهُمْ في الآخِرَة وذلك في الشَّهادةِ لأنْبِيَائِهِم بالبلاغِ، وفيما شَهِدُوا به على أنْفُسِهِمْ كالعَدَمِ من أعْمالِهِمْ، ويكُونُ وجْهُ النَّفْع فيه أن يَكُفُّوا المُؤاخَذَة بِتَرْكِهِم كَتم الشَّهادَة، فيُغفَرُ لهم بإقْرَارِهِم لأنْبِيَائِهِم على أنْفُسِهِم، ثُمَّ بين ثَوَابَهُم، فقال :﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾، فبيَّن أنَّ ذلك النَّفْع هو الثَّوابُ، وهو حَقِيقَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بالتَّعْظِيم.
واعلم : أنَّه تبارك وتعالى إنَّما ذكر الثَّواب، قال :﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾، فيذْكرُ معه لَفْظ التأبيد، وإنَّمَا ذكر عِقَابَ الفُسَّاقِ من أهْلِ الإيمان، فَيذْكرُ مَعَهُ لَفْظ الخُلُودِ، ولم يَذْكُرْ مَعَهُ لفظ التَّأبِيدِ وقوله :﴿ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ﴾ معناه الدعاءُ.
﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم ﴾ الجُمْهُور على أنَّ قوله :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ عائِدٌ إلى جُمَلةِ ما تقدَّم من قوله :« لَهُمْ جَنَّاتٌ »، إلى قوله :« ورضُوا عَنْهُ ».
قال ابنُ الخطيب : وعِنْدِي أنَّه يُحْتَمَل أنْ يكون مُخْتَصّاً بقوله :﴿ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ؛ لأنَّه ثَبَتَ عند أربَابِ العُقُولِ، أن جُمْلة الجنَّة بما فِيهَا بالنِّسْبَةِ إلى رضوان الله - تبارك وتعالى - بالنِّسْبَةِ إلى الوُجُودِ، وكيْفَ والجنَّة مَرْغُوبُ الشَّهْوَة، والرِّضْوَان صفةُ الحقِّ، وأيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا!
ثم قال - تبارك وتعالى - مُعَظِّماً لِنَفْسِهِ :﴿ للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.


الصفحة التالية
Icon