قوله :﴿ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ﴾ في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه :
أظهرها : أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع، وجيءَ هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد.
والثاني : أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر.
الثالث : أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في « يَخَافُون » قال مَكِّي.
الرابع : أنَّها حالٌ من « رَجُلانِ »، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف.
الخامس : أنَّها حال من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور، وهو « مِن الَّذِين » لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار « قَدْ » مع المَاضِي، على خلافٍ سلف [ في المسألة ].

فصل


قوله :﴿ ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب ﴾ مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر؛ كأنَّه قيل : مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ﴾ ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام -، فلمَّا أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال :﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [ فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم ] بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم :﴿ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، يعني : توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام -.
قوله :﴿ قَالُواْ : ياموسى، إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا ﴾ [ « ما » ] مصْدَريَّة ظرفية و « دَامُوا » صِلَتُهَا، وهي « دَامَ » النَّاقصة، وخبرها الجارُّ بعدها، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من « أبداً » وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله، ودوام [ الجَبَّارين ] فيها بَعْضه، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [ كُلٍّ ] من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ :« وأبَداً » تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ، ﴿ مَّا دَامُواْ فِيهَا ﴾ :[ بيانُ الأمْر ]، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد، نحو :« أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ »، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل، وإيضَاحٌ له، نحو : رَأيْتُ زَيْداً أخَاك، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ.
قوله :﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ ﴾ [ في « وَرَبُّكَ » ] أرْبَعَةُ أوجه :
أحدها : أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في « اذْهَبْ »، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير.
الثاني : أنَّه مَرفوع بِفَعْل مَحْذُوف، أي : ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل، وقد تقدَّم [ لي نَقْلُ ] هذا القَوْل والرَّدُّ عليه، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى :


الصفحة التالية
Icon