وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا يَكْمُلُ إلاَّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ - تعالى - خَلَقَ أنواع النِّعَمِ، وإلاَّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ والفواكه إلى الغَيْرِ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاِّ اللَّهُ تعالى، ولا مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله، فلهذا قال :« الحمد لله ».

فصل في بيان قوله :« الحمد لله » بالألف واللام


وإنَّما قال :« الحَمْدُ للَّهِ » ولم يقل : أحْمَدُ اللَّهَ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه الَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارَ معنى الحَمْدِ، فلو قال وقت غَفْلَتِهِ : أحْمَدُ الله [ تبارك وتعالى ] كان كَاذِباً، واسْتَحقٌّ عليه الذَّنْب والعِقَاب حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ، فإذا قال : الحَمْدِ لله، فمعناه أنَّ ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا حقٌّ وصدقٌ، سواء كان معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِه، أو لم يَكُنْ، وكان الكلام عِبَادَةٌ شَرِيفةً وطاعةً، وظَهرَ الفَرْقُ، واللَّهُ أعلمُ.

فصل


هذه الكلمة مذكورة في أوائل خَمْسَةٍ، أوَّلهَا سورةُ « الفاتحة » ﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الفاتحة : ٢ ].
وثانيها : هذه السورة ﴿ الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١ ] والأول أعَمُّ، لأنَّ العالمَ عبارةُ عن كل موجود سوى اللُّه تعالى.
وقوله :﴿ الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض ﴾ لا يَدْخُلُ فيه إلاَّ خَلْقُ السماوات والأرض، والظُّلُمَات والنور، ولا يدخل فيه سَائِرُ الكائنات، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة « الفاتحة ».
وثالثها : سورةُ الكَهْفِ :﴿ الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب ﴾ [ الكهف : ١ ].
وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بسَبَب بَعْنَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام.
وراربعها :« سبأ » :﴿ الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ [ الآية : ١ ].
وهذا أيضاً تحميدُ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الفاتحة : ٢ ]. رضي الله عنR> > وخامسها : سورةُ « فاطر » ﴿ الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض ﴾ [ الآية : ١ ].
وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله تبارك وتعالى :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الفاتحة : ٢ ].
فإن قيل : ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ. وأيضاً لم قال هَاهُنا :« خَلَق السَّمواتِ والأرْضَ » بصيغة فعل الماضي، وقال في سورة « فاطر » :« الحَمْدُ للَّهش فاطر السَّمواتِ » بصيغة اسم الفاعل؟.
فالجواب عن الأول، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ، وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات، وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد والإبداع، فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى رَبَّا ومُرَبياً على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل.


الصفحة التالية
Icon