[ فصلت : ٩ ] أي تقولون.
الرابع : بمعنى « بَيّن » قال تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ ﴾ [ الزخرف : ٣ ] أي : بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ.
الخامس : بمعنى « صَيَّرَ » قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ﴾ [ الإسراء : ٤٦ ] أي : صيرنا، وقوله ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج ﴾ [ التوبة : ١٩ ]، وقوله ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين ﴾ [ النمل : ٦١ ]، وقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِم ﴾ [ يس : ٨ ].
فإن قيل : لِم وَحًّد النُّور، وجمعَ الظُّلمَاتِ. فالجواب من وجوه :
أحدهما : إنْ قُلْنَا : إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفُرُ، والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ، والباطِلُ كثيرٌ.
وإنْ قٌلنا : إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة، فالنُّور [ عبارة ] عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ الكاملة القوية، ثمَّ إنَّها التَّناقٌض [ قليلاً ] وتلك المَرَاتَبُ كثيرة، فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ بصيغة الجَمْع.
وثانيها : أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ، وهو النار، والظُّلُمَاتِ كثيرة، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلاَّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ.
وثالثها : أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ مفردٌ، فعطفت هذه عليها كذلك، وقَدْ تقَّدمَ في « البقرة » الحِكْمَةُ في جَمْع السماوات، وإفراد الأرض.
فإنْ قيل : لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [ على النور ] في الذكر؟.
فالجوابُ : لأنه مُوَافِقٌ في الموجودِ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ النُّور عِنْدَ الجمهور.
فصل في المراد بالظلمات والنور
قال الوَاقِدِيُّ : كُلُّ مَا في القرآنِ من الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان، إلاَّ في هذه الآية، فإنَّهُ يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ.
وقال الحسنُ : المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان.
وقيل : المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُن وبالنُّور العِلْمُ.
وقال قتادة : يعني الجَنَّةَ والنَّار.
وقيل : معناها خَلْقُ السموات والأرض، وقد دجَعَلَ الظلمات والنُّور؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السموات والأرضِ.
قال قتادة : خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ، والجنَّة قبل النَّار.
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ ﷺ قال :« إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ عَلَيُهِم مَنْ ذّلِكَ اهْتَدَى، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ ».
قوله تعالى :﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ ﴾.
« ثُمَّ » هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله :« الحمدُ لله »، وإمَّا على قوله :« خَلَقَ السَّمواتِ ».
قال الزمخشري :« فإن فما معنى » ثم « ؟ قلت : استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك » ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ « استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهث مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم ».
وقال ابن عطية :« ثُمَّ » دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره.
قال أبو حيَّان : ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من « ثُمَّ »، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل « ثمَّ » هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [ على جملةٍ اسميةٍ ] يعني على « الحَمْدُ للِّهِ ».