أعلم أنَّا إذا قلنا : المراد من الآية المُتقدِّمة إقَامَةُ الدليل على وجود الصَّانع القادر المُخْتَارِ، فالمُرادُ من هذه الآيَةِ إقامَةُ الدليل على كونه عَالِماً بجميع المَعْلُومَاتِ؛ لأنها تَدُلُّ على كمالِ العلم.
وإن قلنا : المراد من الآية المُتقدِّمةِ إقامَةُ الدليل على صِحِّة المَعَادِ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان؛ لأنَّ مُنكِري المعاد إنَّما يُنْكِرُونَهُ لأمرين :
أحدهما : أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ المؤثّر في حدوث بَدَن الإنسان هو امْتِزَاجُ الطَّبائِعِ، وإنْ سلَّموا كون المؤثّر فيه قَادِراً مختاراً، فإنَّهم يَقُولُونَ : إنِّهُ [ غير ] عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تَمْييزث المُطيعِ من العَاصِيِ، ولا تمييز أجزاء بَدَنِ زيد عن أجْزاءِ بَدَن عن أجزاء بَدَنِ عمرو.
قوله :« وهُوَ اللِّهُ في السَّمواتِ » في هذه الآية أقْوالٌ كثيرة، وقد لُخِصَّتْ في اثْنَيْ عشر وَجْهاً؛ وذلك أن « هو » فيه قولان :
أحدهما : هو ضمير اسم الله - تعالى - يعودُ على ما عَادَتْ عليه الضَّمائِرُ قبله.
الثاني : أنَّهُ ضميرُ القِصَّةِ، قال أبو عليَّ.
قال أبو حيَّان : وإنَّما فرَّ إلى هذا؛ لأنه لو أعاد على اللِّهِ لَصَارَ التقديرُ : اللَّهُ اللَّهُ، فتركَّب الكلام من اسمين مُتَّحِدَيْنِ لفظاً ومعنى لا نِسْبَةَ بينهما إسنادية.
قال شهاب الدين : الضَّميرُ إنما هو عَائِدٌ على ما تقدَّمَ من المَوْصُوفِ بتلك الصِّفات الجلية، وهي خَلْقُ السَّموات والأرض، وجعل الظُّلُماتِ والنُّور، وخَلْق النَّاس من طين إلى آخرها، فصَارَ في الإخبار بذلك فَائِدَةٌ من غير شَكِّ، فعلى قولِ الجُمْهُورِ يكون « هو » مبتدأ، و « اللَّهُ » خبره، و « في السَّمَوَات » متعلقٌ بنفس الجلالة لمَّا تَضمَّنّتْهُ من معنى العِبَادةِ، كأنَّهُ قيل : وهو المَعْبُود في السَّموات، وهذا قول الزَّجَّاج، وابن عطيَّة، والزمخشري.
قال الزَّمخشري :« في السَّمَوَات متعلِّقٌ بمعنى اسم اللَّهِ، كأنَّهُ قيل : هو المَعْبُود فيها، ومنه :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله ﴾ [ لزخرف : ٨٤ ] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة فيها، أو الذي يُقَالُ له » اللَّه « [ لا يشركه في هذا الاسم غيره ].
وقال شهابُ الدين : إنما قال : أو هو المَعْرُوفُ، أو هو الذي يُقال له : اللَّهُ؛ ] لأنَّ الاسم الشَّريف تقدَّم فيه خلافٌ، هل هو مُشْتَقٌ أوْ لا؟ فإن كان مُشْتقاً ظَهَرَ تلُّق الجَارِّ بِهِ، وإنْ كان لَيْسَ بمشتقِّ، فإمَّا أن يكون يتأوّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة.
فقوله :» المَعْبُود « راجعٌ للاشتقاقِ، وقوله :» المَعْرُوف « راجع لكونه عَلماً مَنْقُولاً، وقوله :» الَّذي يُقَال له : اللَّهُ « راجع إلى كونه مُرْتجلاً، وكأنه - رحمه الله - اسْتَشْعَرَ بالاعتراض المذكور.
والاعْتِراضُ مَنْقُولٌ عن الفَارسيَّ.
قال :» وإذا جَعَلْتَ الظَّرْفَ متعلّقاً بام اللِّهِ جَازَ عندي على قياس مَنْ يقول : إنَّ الله أصْلُه « الإله » ومن ذَهَبَ بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب ألاَّ يتعلٌّق به « عنده » إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه ضَرْباً من معنى الفِعْلِ «، نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلَّقُ » في « باسم اللَّهِ؛ لأنَّه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى :