والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبْعَاضِ، وهو مُحَالٌ.
وثالثها : أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً، وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ.
ورابعها : أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ، فهل يَقْدرُ على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر؟ وذلك من وجهين :
والثاني يوجبُ وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى - لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم، والقوم منكرون كونه تحت العالم.
وخامسها : أنه تعالى قال :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [ الحديد : ٨٤ ] وقال ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ [ ق : ١٦ ].
وقال :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ] وقال :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ] وكُلُّ ذلك يُبْدِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره، وجَبَ التَّأويلُ، وهو من وجوه :
الأول : أنَّ قوله :﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض ﴾، أي : في تدبير السمواتِ والأرض، كما يقال :« فلانٌ في أمْرِ كذا » أي : في تدبيره، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ، كقوله :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله ﴾ ٨٤ ].
الثاني : أنَّ قوله :[ تَمَ ] عند قوله :« وهُوَ اللَّهُ » ثُمَّ ابتدأ، فقال :« في السَّمواتِ وفِي الأرْض يَعْلمُ سِرَّكم وجهْرَكُم »، أي : يَعْلمُ ما في السَّمواتِ الملائكة، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن.
الثالث : أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير، وهو « اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم ».

فصل في بيان معنى « ما تكسبون »


قوله :« ويَعْلمُ ما تكسبون » فيه سؤال، وهو أنَّ الأفعال إمَّا أفعال القُلُوبِ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ، وإمِّا أعمال الجَوَارحِ، وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر.
فكان قوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون ﴾ يقتضي عَطْفَ الشيء على نفسه، وإنَّهُ فاسدٌ.
والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله :« مَا تَكْسِبُونَ » على ما يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ.
والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُلٌ على ا لمُكْتَسَبِ كما يُقَالُ :« هذا كَسْبُ فلان »، أي : مُكْتَسَبُهُ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل، والكَسْبُ هو الفعلُ المُفْضِي إلى اجْتِلاَبِ نَفْع، أو دَفْع ضَرَرٍ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ، ودَفْعِ الضرر.


الصفحة التالية
Icon