« لِمَنْ » خَبَرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم، لاشْتِمَالهِ على مَا لهُ صَدْرُ الكلام، فإنَّ « مَنْ » استفهامية [ والمبتدأ « ما » وهي بمعنى « الذي » ]، والمعنى : لمن اسْتَقَرَّ الذي في السموات.
وقوله :« قُلْ للَّهِ » قيل : إنَّمَا أمَرَه أن يجيب، وإن كان المقصود أن يُجِيبَ غيره؛ ليكون أوَّل من بَادرَ بالاعتراف بذلك.
وقيل : لمَّا سِألَهُمْ كأنَّهم قالوا : لمن هو؟ فقال اللَّهُ : قُلْ للَّهِ، ذكره الجُرْجَانِيُّ فعلى هذا قوله :« قُلْ للِّه » جوابٌ للسؤال المُضْمَرِ الصَّادِرِ من جهة الكُفَّارِ، وهذا بَعِيدث؛ لأنهم لم يكونوا يَشكُّون في أنَّهُ للَّهِ، وإنما هذا سؤالُ تَبْكِيتٍ وتَوبِيخٍ، ولو أجابو الم يَسَمْهُمْ أن يُجيبوا إلاَّ بذلك.
وقال ابن الخَطيبِ : إنَّ اللَّهَ - تبارك وتعالى - أمَرَهُ بالسُّؤالِ أوَّلاً، ثمَّ بالجواب ثانياً، وهذا إنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الذي يكونُ جوابُهُ قد بَلَغَ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره مُنْكِرٌ، ولمَّا كانت آثار الحدوث والإمْكان ظاهرة في ذَوَاتِ جميع الأجْسَامِ، وفي جميع صفاتها، ولا جَرَمَ كان الاعْتِرَافُ بأنها بأسرها للَّه تعالى، ومِلْكٌ له، ومَحَلُّ تَصَرُّفِهِ وقُدرَتِهِ، لا جَرَمَ أمره بالسُّؤالِ أوّلاً، ثم بالجواب ثانياً لِيَدُلَّ ذلك على الإقْرَارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيل إلى دفعه ألْبَتَّةَ، كما قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] وقوله :« اللَّه » خبر مبتدأ محذوف أي : هو اللَّهُ.

فصل في المراد بالآية


والمقصودُ من هذه الآية الكريمة تَقْرِيرُ إثْبَاتِ الصَّانع، وتقرير المعاد، وتقرير النُّبُوَّةِ، أما تقدير إثبات الصَّانِع، فلأن أحوال العالم العُلْوِيّ والسُّفْلي تدلُّ على أنَّ جميع هذه الأجْسَام موضوفةٌ بصفات كان يجوز عليها اتَّصَافُها بأضْدَادِهَا، وإذا كان كذلك كان اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْسِ منها بصفة مُعَيَّنَةٍ لابُدَّ وأن يكون لأجل أنَّ الصانعَ الحكيم القَادِرَ المُخْتَارَ خَصَّهُ بتلك الصِّفَةِ المعنية، وهذا يَدُلُّ على أن العَالَم مع كل ما فيه مَمْلُوكٌ للَّهِ تعالى، وإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادٍراً على الإعَادَةِ والحَشْر والنَّشْرِ؛ لأن التركيب الأوَّل إنما حَصَلَ لكونه - تبارك تعالى - مَلِكٌ مُطَاع، والمَلِكُ المُطاع مَنْ لَهُ الأمْرُ والنهي على عَبِيدهِ، لا بُدَّ من مُبَلِّغ، وذلك يَدُلُّ على أن بعْثَةَ الأنبياء والرُّسُلِ عليهم الصّلاة والسَّلام من اللَّهِ إلى الخَلْقَ غير ممتنع، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على هذه المطالب الثلاثة، ولما سَبَقَ ذِكْرُ هذه المَسَائِلِ الثلاثةً ذكر اللَّهُ - تبارك وتعالى- بعدها هذه الآية لتكون مَقْرُنةً بمجموع تِلْكِ المَطَالِبِ.
قوله :« كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ » أي : قَضَى وأوْجَبَ إيجَابَ تَفَضُّلٍ، لا تضمَّن من معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا توقُّف على قوله :« الرَّحْمَة ».
وقال الزجاج : إن الجملة في قوله : ليجمعنَّكم « في محل نصب على أنها بَدَلٌ من الرحمةِ؛ لأنه فسَّرَ قوله تعالى :» ليجمعنَّكم « بأنه أمْهَلَكم وأمَدَّ لكم في العُمْرِ والرِّزْقِ مع كُفْركم، فهو تفسيرٌ للرحمة.


الصفحة التالية
Icon