وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصّك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال :« يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت » فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضاً قوله في الرواية الأخرى :« أجب ربك » يدلّ على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها : أن موسى ﷺ كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدّخان من قَلَنْسُوته ورفع شعرُ بدنه جبّته؛ وسرعة غضبه كانت سبباً لصَكِّه مَلَك الموت.
قال ابن العربي : وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى ﷺ عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمِر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد ﷺ من « أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيِّره » فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم، والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غُنْيَة عنها. انتهى.

فصل


وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت؟ فقال :« كشاة تسلخ وهي حية ».
وقوله :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين ﴾ أي لا تحزن.
[ والأسى : الحُزْن، يقال : أسِي - بكسر العين - يَأسَى، بفتحها، ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ، وهو الظاهرُ لقولهم :« رجل أسْوان » بزنة سكران، أي : كثير الحزن، وقالوا في تثنية الأسى : أسوان، وإنما قُلبت الواوُ في « أسِيَ » يَاءً لانكسار ما قبلَها، ويُحْتمل أن تكون ياءً فقد حُكي « رجل أسْيان » أي كثيرُ الحزن، فتثنيتُه على هذا « أسَيان ». والله أعلم بغيبه ].


الصفحة التالية
Icon