فإن قيل : فعلى هذا التقدير يكنون صادقين في قولهم، فماذا قال تبارك وتعالى ﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ ﴾ فالجواب أنه ليس يجب من قوله :﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ ﴾ انهم كذبوا فيها تقدَّم ذِكْرُهُ من قولهم :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين ﴾، بل يجوز أن يكون المراد ﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ في دار الدُّنْيَا في أمور يخبرون عنها بأنَّ ما هم عليه لَيْسَ بشرْكٍ، وأنهم على صواب ونحوه، فالمقصود من قوله تعالى :﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ اخْتِلافُ الحالتين، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون، وأنهم في الآخرة يتحرَّزُون عن الكذب، ولكن حيث لا ينفعهم الصِّدْقُ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر، أظهر الله - تعالى - للرسول ذلك.
القول الثاني : قول جمهور المفسرين- : أن الكفار يكذبون في القيامة واسْتَدلُّوا بوجوه :
أحدهما : ما حكى اللَّهُ - تعالى - عنهم أنهم يقولون :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٧ ] مع أنه - تعالى أخر عنهم بقول :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ].
وثانيها : قوله تبارك وتعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون ﴾ [ المجادلة : ١٨ ] بعد قوله تعالى :﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب ﴾ [ المجادلة : ١٤ ] فَشَبَّهَ كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدينا.
وثالثها : ما حَكَاهُ - تعالى - عنهم :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [ الكهف : ١٩ ].
والجوابُ عما قاله الجُبَّائي بان يُحْمَلَ قولهم ما كانوا مشركين في ظُنُونهم، هذا مُخَالفٌ للظَّاهرِ، ثّمَّ قوله بعد ذلك :﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ ﴾ بأنه مَحْمُولٌ على كذبهم في الدنيا يوجبُ تفكيك نَظْمِ الآية، وصَرْفََ أول الآية إلى أحوال القيامة، وصَرْفَ آخرها إلى أحوال الدنيا، وهو في غاية البُعْدِ.
وقولهم : كذبوا في حال كَمَالِ العَقْلِ، وحال نُقْصَانِهِ، فنقول : لا يبعد أنهم حَالَ ما عَايَنُوا أهوال القيامة، وشاهدوا مُوجِبَاتِ الخوف الشديد أخْتَلَّتْ عقولهم، فذكروا هذا الكلام.
قولهم : كيف يَلِيقُ بحكمة اللَّهِ - تعالى - أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضْطَرَابِ العقول؟
فالجوابُ : هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمَّا قولهم : إنَّ المكلفين لا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقو : اخْتلالُ عقولهم سَاعةً واحدة حالة ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمالِ عقولهم في سِائرِ الأوقات.
قوله :﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ ﴾ « كيف » مَنْصُوبٌ على حدِّ نصبها في قوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وقد تقدَّم.
و « كيف » وما بعدها في محل نصب ب « انظر » ؛ لأنها معلقةٌ لها عن العملِ، و « كّذَبُوا » وإن كان معناه مُسْتَقْبلاً، لأنه في يوم القيامة، فهو لَتحَقُّقِهِ أبرزه في صورة الماضي.