والثاني : أن قوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] ليس متعلّقاً بالمتمني، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تبارك وتعالى، بأنهم دَيْدَنهم الكَذِبُ وهجيراهم ذلك، فلم يَدْخُلِ الكذبُ في التمنِّي، وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.
والثالث : أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ التمنِّي لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِيَ ذلك إلى عيسى بن عُمَرَ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [ حيث قال ] :[ الطويل ]

٢١٣٩- مُنَى إنْ تَكُنْ حَقَّا تَكُنْ أحْسنَ المُنَى وإلاَّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنا رَغْدَا
قال :« وإذا جاز أن تُوصَفَ المُنَى بكونها حَقّاً جاز أن تُوصَفَ بكونها باطلاً وكذباً ».
وهذا الجواب سَاقِطٌ جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحَقِّ إنما هو المُنَى، و « المنى » : جمع « مُنْيَة » و « المُنْيَةُ » تُوصَفُ بالصِّدقِ والكذب مجازاً، لأنها كأنها تَعِدُ النَّفْسَ بوقوعها، فيقال لما وقع منها : صَادِق، ولِمَا يَقَعْ منها : كاذب، فالصِّدْق والكذب إنما دَخَلا في المُنْيَةِ لا في التمني.
والثالث من الأوجه المتقدمة : أن قوله :« ولا نُكَذِّبُ » خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اسْتئنَافِيَّةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجلمة المُشْتملة على أدَاةِ التمني وما في حيِّزهَا، فليستْ داخلةً في التَّمَنِّي أصلاً، وإنما أخبرَ الله - تبارك وتعالى- عنهم أنهم أخْبَرُوا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربِّهم، وأنَّهُمْ يكونون من المُؤمنينَ، فتكون هذه الجملة وما عُطِفَ عليها في مَحَلِّ نصبٍ بالقول، كأنَّ التقدير : فقالوا : يَا لَيْتَناَ نُرَدُّ وقالُوا : نحن لا نُكَذِّب ونكُون من المؤمنين.
واخترا سيبويه هذا الوجه وشبَّهَهُ بقولهم :« دَعْنِي ولا أعُودُ »، أي : وأنا لا أعود تَرَكْتَنِي أو لم تتركني، أي : لا أعود على كُلِّ حالٍ، كذلك معنى الآية : أخْبروا أنهم لا يُكَذِّبُون بآيات ربهم، وأنهم يَكُونُون من المؤمنين على كل حالٍ، رُدُّوا أوة لم يُرَدُّوا.
وهذا الوجهُ وإن كان النَّاسُ قد ذكروه ورجَّحثوه، وأختار سيبويه - رحمه الله - كما مَرَّ، فإن بعضهم اسْتَشْكَلَ عليه إشْكَالاً، وهو : أنَّ الكَذِبِ لا يَقَعُ في الآخرة، فكيف وُصِفُوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم « ولانُكَذِّب ونكون » ؟
وقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أن قوله ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] اسْتيثَاقٌ لذَمِّهِمْ بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّمَ ذلك آنفاً.
والثاني : أنهم صَمَّوا في تلك الحَالِ على أنهم لو رُدُّوا لما عادوا إلى الكُفْرِ لما شَاهَدُوا من الأهْوالِ والعقوبات، فأخبر اللَّهُ - تعالى - أنَّ قولهم في تلك الحَالِ :« ولا نكذِّبُ » وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرَّدِّ، ووقوع العَوْدِ، فيصير قولهم :« ولا نكذّب » كذباً، كما يقول اللِّصُّ عند ألم العقوبة :« لا أعود » ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّصَ وعاد كاذباً.
وقد أجاب مَكّي أيضاً بجوابين :
أحدهما [ قريب ] مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال - أي لكاذبون في الدُّنْيَا في تكذيبهم الرُّسُلَ، فإنكارهم البَعْثَ للحال [ التي ] كانوا عليها في الدُّنْيَا، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وُقُوعَ التكذيب في الآخرة، لأنهم ادَّعَوْا أنهم لو رُدُّوا لم يُكَذَّبوا بآيات الله، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكدَّبوا بآيات اللِّهِ، فأكذبهم اللَّهُ في دَعْوَاهُمْ.


الصفحة التالية
Icon