فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [ عليه أن صَاحِبَه ] حسن الاعتقاد [ وأنه ] مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه، فلما أقدم على قَتْلِهِ [ وَقَتَلَهُ ] مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ، وجب أن يقال :[ هذان الرَّجلان ] كانا من بَنِي إسْرَائيلَ، والصَّحيح الأول؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم -.

فصل


قوله تعالى :« بالحقِّ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه حَالٌ من فاعل « اتْلُ » أي : اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي : بالصِّدق، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل.
والثاني : أنه حال من مَفْعُوله وهي « نَبَأ »، أي : اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك.
الثالث : أنه صِفَةٌ لمصدر « اتْلُ »، أي : اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدٌ كافَّة.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ به بدأ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف « البَاءُ » للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بتسكين الميم من « آدَم » قبل بَاءِ « بالْحَقِّ »، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك، وبعدها بَاء، ومعنى الكلام : واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [ الصحيح ]، وهو تَقْبِيح الحسد، والبَغْي وقيل : لِيَعْتَبِرُو به لا لِيَحمِلُوهُ على اللَّعِبِ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية، لقوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ﴾ [ يوسف : ١١١ ].
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَرَّبَا [ قُرْبَاناً ] ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : وبه بدأ الزَّمخشريُّ، وأبو البقاء : أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ، أي : قصّتُهما، وحديثهما في ذلك الوَقْت، وهذا وَاضِح.
والثاني : أنه بَدلٌ من « نبأ » على حَذْف مضافٍ، تقديره :« واتْلُ » عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ.
قال أبُو حَيَّان :« ولا يجُوز ما ذكر؛ لأن » إذْ « لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و » نبأ « ليس بزمان.
الثالث : ذكره أبُو البَقَاءِ [ أنه حال من »
نبأ « [ وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح.
قال أبو البَقَاء :] ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل »
اتْلُ « ؛ قلت : لأنَّ الفعل مستقبل، و » إذ « وقت ماضٍ، فكيف يَتلاقَيَان؟ و » الْقُرْبَانُ « فيه احْتِمَالان :
أحدهما : وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ :»
أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى «.


الصفحة التالية
Icon