والثاني : أنه نفي للتكذيب لانْتَِفَاءِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل : فإنهم لا يكذبونك تكذيباً يُبَالَى به ويضرك؛ لأنك لِسْتَ بكاذبٍ، فتكذيبُهُمْ كلا تَكْذِيبٍ، فهو من نَفْيِ السَّبَبِ لانتفاء مسببه.
وقال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك أمْرٌ راجع إلى اللَّه تعالى؛ لأنك رسُولُهُ المصدَّق، فهم لا يكذبونك في الحقيقةِ، إنَّما يكذِّبون اللَّهَ بجحود آياته، فانْتَهِ عن حُزْنِكَ، كقول السَّيَّدِ لُغلامِهِ وقد أهَانَهُ بعض الناسِ لم يُهينوك وإنما أهَلانُونِي، فهو نظير قوله :﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ].
الثالث : أن القوم ما كانوا يُكذِّبُون به في السِّرِّ كما تقدَّمَ في سبب النزول، فيكون تقدير الآية : فإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بقلوبهم، بل بظاهر قولهم.
ونظيره : قوله تعالى :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ﴾ [ النمل : ١٤ ] في قصة موسى عليه الصلاة وا لسلام.
الرابع : أنهم لا يقولون : أنْتَ كَذَّابٌ؛ لأنهم جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطويل وما وَجدُوا منك كذباً ألْبَتَّهَ، وسَمَوْك بالأمين، وإنما جَحَدُوا صِحِّةَ نُبُوَّتك؛ لأنهم اعْتَقَدُوا أنَّ محمَّداً عرض له نوع خَبَلٍ ونُقْصَانٍ، فلأجله تَخَيَّلَ في نفسه كونه رَسُولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلأى الكذبِ، بل هو أمينٌ في كُلِّ الأمورِ إلاَّ في هذا الوجهِ الواحد.
الخامس : قال ابن الخطيب : المرادُ أنَّهُمْ لا يخصُّونك بالتكذييب، بل ينكرُون دلالةَ المعجزة الظَّاهرة على الصدق مطلقاً لقوله :« ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ».
والمُرَادُ أنهم يقولون في كُلِّ معجزةِ : إنها سِحْرٌ، فالتقدير : أنهم لا يكذٍّبونك على التِّعيين، بل القَوْمُ يُكذِّبون جَمِيعَ الأنبياء والرُّسُلِ.
قوله :« بآيات اللَّهِ » يجوز في هذا الجَارِّ وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ ب « يجحدونَ » وهو الظِّاهر، وجوَّز أبُو البقاء أن يتعلق ب « الظَّالمين » قال : كقوله تعالى :﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] وهذا الذي قال لي يجيِّدٍ لأن « الباء » هناك سَبَبِيَّةٌ، أي : ظلموا بسببها، و « الباء » هنا معناها التعدية، وهنا شيء يتعلَّق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضَرُورَةَ تَدْعُوا إلى الخروج عَنْهُ، وفي هذه الآية إقامةُ الظاهر مُقَامَ المضمر، إذا الأصل :« ولكنهم يَجْدُونَ بآياتِ الله »، ولكنَّهُ نَبَّهَ على أن الظلم هو الحامل لهم على الجُحُودِ.
والجحود والجَحْدُ نفي ما في القَلْبِ ثَبَاُهُ، وأو إثْبَاتُ ما في القلبِ نَفْيُهُ.
وقيل : الجَحْدُ إنْكَارُ المعرفةِ، فليس مُرَادفاً للنفي من كُلِّ وجهٍ.