فإن قيل : حُكْم القِصَاص ثَابتٌ في جميع الأمَم فما فَائِدَة تخْصِيصِه بِبني إسْرائيل؟.
فالجواب : أنَّ وجوب القِصَاص وإن كان عاماً في جميع الأمَمِ، إلا أنَّ التَّشْديد المَذْكور في حقِّ بَنِي إسْرائيل غير ثَابتٍ في جميع الأدْيَان؛ لأنَّه - تعالى - حكم هاهُنَا بأن قَتْل النفس جار مُجْرى قَتْل جَمِيع النَّاس، فالمقصود منه : المُبَالَغَة [ في عقاب القتل العَمْد العدوان، والمقصود من هذه المُبَالَغَة : أنَّ اليهُود مع عِلْمهم بهذه المُبَالغة العَظِيمة ] أقدَموا على قتل الأنبياء والرُّسل، وذلك يدُلُّ على غاية قَسَاوَة قُلُوبهم ونِهَاية بُعْدهم عن طَاعَة الله، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص، تَسْلية الرَّسول في الواقعة التي ذكرْنا، من أنَّهُم عزموا على الفتك برسُول اللَّه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وبأكابر الصَّحابة، [ فكان تَخْصِيص ] بَنِي إسرائيل في هذه القِصَّة بهذه المُبَالغَة مُنَاسِباً للكَلاَم.

فصل


استدلَّ القَائِلُون بالقياس بهذه الآية على أنَّ أحْكَام الله تعالى قد تكون مُعَلَّلة؛ لأنَّه قال :﴿ مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا ﴾ وهذا تَصْرِيح بأن كتبه تلك الأحْكَام معلَّلٌ بتلك المَعَانِي المُشَار إليها بقوله ﴿ مِنْ أَجْلِ ذلك ﴾.
وقالت المُعتزلةُ :
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ أحْكَام اللَّه معلّلة بمصالح العِبَاد، وإذا ثَبَتَ ذلك امْتَنَع كونه خَالِقاً للكُفْر والقَبَائح، مُريداً وقوعها مِنْهم؛ لأنَّ خلق القَبَائح وإراداتها يمنع من كونه تعالى مُرَاعياً للمصالح، وذلك يُبْطِل التَّعْلِيل المَذْكُور في هذه الآية.
وأجاب القَائِلُون بأنَّ تعلِيلَ أحْكَام اللَّه مُحَالٌ بوجوه :
أحدها : أن العِلَّة إذا كانت قَدِيمة لزم قدم المَعْلُول، وإن كانت مُحْدَثة وجب تَعْلِيلُها بعلَّة أخرى ولزم التَّسَلْسُل.
وثانيها : لو كان مُعَلَّلاً بِعِلَّة، فوجود تلك [ العِلَّة ] وعدمها بالنِّسْبَة إلى اللَّه تعالى إن كان على السَّوِيَّة امتنع كونه عِلَّة، وإن لم يَكُن فأحدهما به أوْلى، وذلك يَقْتَضِي كونه مُسْتَفِيداً تلك الأوْلويَّة من ذلك الفِعْلِ [ فيكون ناقِصاً لذاته مُسْتَكْملاً بغيره وهو مُحَال.
وثالثها : ثبت توقف الفعل ] على الدَّوَاعي، ويمتنع وقوع التَّسَلْسُل في الدَّواعي، بل يجب انْتِهَاؤُها إلى الدَّاعية الأولَى التي حَدَثَت في العَبْد، لا مِن العَبْد بل من الله تعالى، وثبت أنَّ عند حُدُوث الدَّاعِية يجب الفعل. وعلى هذا التقدير : فالكُلّ من الله تعالى، وهذا يَمْتَنِع من تَعْلِيل أفْعَال اللَّه وأحكامه برعاية المصالح، وإذا ثبت امْتِنَاع تَعْليل أفعال اللَّه وأحكامه ثَبَتَ خلوّ ظاهر هذه الآية من المُتَشَابِهَات، ويؤكِّده قوله تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ١٧ ]، وذلك نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّه يحسن من اللَّه كُلُّ شيء، ولا يَتَوَقَّف خلقه وحُكْمُه على رعاية المَصْلَحة ألبتة.
قوله تعالى « بِغَيْر نَفْسٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ بالقتل قَبْلها.
والثاني : أنَّه في مَحَلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في « قتل »، أي : قَتلها ظالماً، ذكره أبو البقاء.


الصفحة التالية
Icon