الثالث : أن يكون [ « لَهُمْ » ] خبراً ل « ذلك » و « خِزْي » فاعل، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ، و « فِي الدُّنْيَا » على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة.

فصل في شبهة للمعتزلة وردها


المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا : الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم.
قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآية [ على القَطْعِ بوَعِيد ] الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدِّيْن، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط.
والجوابُ : لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة، وإذا جازَ لكم [ أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة ] لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ [ على أنَّه - تعالى - ] يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى ﴿ بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته ﴾ [ البقرة : ٨١ ].
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط؟.
وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس، فلا تسقط، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال، وَوَلِيّ الدَّم، والظَّاهر الأوّل.
الثاني : أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء، والخبر قوله :« فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم » والعَائِد مَحْذُوف، أي : غفور له؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء. وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى : لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ.

فصل


من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ : من شركهم : وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال.
أما المُسْلِمُون المحاربون : فمن تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [ قبل القُدْرَة عليه ] تحتُّم القَتْل، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب، ويجب ضَمَان المال.
وقال بعضهُم : إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [ عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه.
روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة. أما من تاب بعد القدرة ] فلا يَسْقُط عنه شيء منها.
وقيل : كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق، وقطع السَّرقة، وحدِّ الزنا، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط.


الصفحة التالية
Icon