وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ : كيف يجوزُ [ القطعُ في سرقةِ ] الطسوجة الواحدةِ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال : اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ، قال : ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ :
قال الشافعيُّ : يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ، وروى فيه قوله ﷺ « لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ » وقال أبُو حنيفَةَ : لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة، وروى قوله ﷺ « لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ » قال : والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم.
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ : يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ، فعلى هذا التقدير : فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها : ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ.
قال : وليس لأحدٍ أنْ يقول : إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ، قال : لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ، وكان يقولُ : احذر من قطع درهم، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رضي الله عنهم -، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا : لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ.
فقال الشافعيُّ : القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة. ويُقَوَّم غيرُها به، وقال مالكٌ وأحمدُ : رُبْعُ دينارٍ [ أو ] ثلاثةُ دَرَاهِمَ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : خَمْسةُ دراهِم، وحجةُ الشافعي - رضي الله عنه - ما رُوِي عن عائشةَ - رضي الله عنها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال :« القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً ».
وحُجَّةُ مالكٍ - رضي الله عنه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ.


الصفحة التالية
Icon