[ المائدة : ٤٤ ].
وقال بَعْضُهُم : كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه من اليَهُوديَّة، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم.
وقيل : سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى :﴿ وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ النساء : ١٦١ ].
وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ. وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال :« كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به » قالُوا : يا رسولَ الله، ومَا السُّحْتُ؟ قال :« الرشوةُ في الحُكْمِ ».
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أيْضَاً أنَّهُ قال : السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا.
وقال بعضُ العلماءِ : من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له، فلا يَقْضِيَها له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها. انتهى.
وقال أبُو حَنيفَةَ [ - رضي الله عنه - ] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك.
قال القرطُبي : وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ.
قوله تعالى :﴿ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾.
خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ :
الأولُ : أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ، ثُم اختلف هؤلاءِ.
فقال ابنُ عباسٍ، والحسنُ، والزهريُّ - رضي الله عنهم - : إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ، وقيل : في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً.
وقيل : هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم، فإن شاء حكم بينهم، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم.
والقول الثاني : أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار، ثم اختلفُوا : فمنهم من قال : إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة، وعطاء، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ، وأبِي مُسْلِمٍ.
وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ، ومنهم مَنْ قال : إنه منسوخٌ بقوله تعالى :﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] وهو قولُ ابن عباسٍ، والحسنِ، ومجاهد، وعكرِمَة [ رضي الله عنهم ]، ومذهبُ الشافعيِّ - رضي الله عنه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم.
فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم، بل يتخيَّرُ في ذلك.
قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ : قوله تعالى :﴿ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله ﴾ [ المائدة : ٢ ] نسخَهَا قوله :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ].
وقوله تعالى :﴿ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ نسخها قوله تعالى :﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ.
ثُمَّ قال :﴿ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ﴾ والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم، وصاروا أعداءً لَهُ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له.
ثُمَّ قال تعالى :﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ أيْ بالعَدْلِ :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ أيْ : العادِلينَ.