يَعْنِي أنَّه لما اختلفَ متعلِّقُ الحكمِ غاير بَيْنَ الفعلينِ أيضاً، فإن النبيينَ يحكُمُونَ بالتوراةِ، والأحبارُ والربانيونَ يحكُمونَ بما استحفَظَهُمُ الله تعالى، وهذا بعيد عن الصَّوَابِ؛ لأنَّ الذي استحَفَظَهُمْ هو مُقْتَضَى ما في التَّوْرَاةِ، فالنبيُّونَ والربانِيُّون حاكِمُونَ بشيء واحدٍ، على أنَّه سيأتي أنَّ الضَّمير في « اسْتُحْفِظُوا » عَائِدٌ على النَّبِيين فَمَنْ بعدهم.
قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه : الربانيون يُرْشِدُونَ الناسَ بالعلمِ، ويربونهم للصغارِ قَبْل كبار.
وقال أبُو رَزِين : الرَّبَّانِيُّونَ العلماءُ، والحكماءُ، وأمَّا الأحبار : فقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : هُمُ الفقهاء والحَبرُ والحِبرُ بالفتح والكسر : الرجلُ العالِمُ، مأخُوذٌ من التَّحِبِيرِ، والتَّحبر؛ فَهُمْ يُحبِّرون العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ، فهو مُحَبَّرٌ في صُدُورهم.
قال الجوهَرِيُّ : والحِبَر والحَبر واحد أحبار اليهود، وهو بالكسْرِ أفْصحُ؛ لأنَّهُ يُجَمعُ على أفْعَالٍ دُونَ الفُعُولِ.
قال الفرَّاءُ : هُو حِبْرٌ بالكسْرِ، يُقالُ ذلك للعَالِمِ.
وقال الثَّوْرِيُّ : سألْتُ الفرَّاءَ : لِمَ سُمِّيَ الحبْرُ حِبْراً؟ فقال : يُقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ، فالمعنى مدادُ حبرهم، ثم حذف كما قال :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] [ أيْ أهْلَ القَريةِ ].
قال : فسألتُ الأصمعيَّ، فقال : لَيْسَ هذا بشْيءٍ، إنما سُمِّي حبْراً لِتَأثيرِه، يُقالُ : على أسْنَانِهِ حِبْرٌ، أيْ : صُفْرَةٌ أو سوادٌ.
وقال المبرِّدُ : وسُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكْتَبُ به حِبْراً؛ لأنه يُحَبَّرُ به، أيْ : يُحقَّقُ بِهِ.
وقال أبُو عُبَيْد : والذي عندي في واحدِ الأحبارِ أنَّه للحَبر بالفتح، ومعْنَاه العالمُ بِتَحبِير الكلامِ، والعلم تحسينه، والحِبرُ بالكسر : الذي يُكْتَبُ به.
قوله تعالى :﴿ بِمَا استحفظوا ﴾ أجازَ أبُو البقاءِ فيه ثلاثةُ أوْجهٍ :
أحدها : أنَّ « بِمَا » بدلٌ من قوله :« بِهَا » بإعادة العامل لِطُول الفَصْل، قال :« وهو جائزٌ وإنْ لَمْ يَطُل » أيْ : يجوزُ إعادةُ العامِلِ في البَدَلِ، وإن لم يَطُل.
قلتُ : وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً.
الثاني : أنْ يكُونَ مُتعلّقاً بفعْلٍ محذوفٍ : أيْ : وَيَحْكُم الربانيونَ بما اسْتُحفِظُوا، كما قدمتُه عنه.
والثالث : أنَّه مفعولٌ به، أيْ : يحكُمُونَ بالتوراة بسببِ اسْتِحْفَاظِهِمْ ذلك، وهذا الوجهُ الأخيرُ هو الذي نَحَا إليه الزمخشريُّ؛ فإنه قال :« بِمَا اسْتُحْفِظُوا بِمَا سألَهُمْ أنبياؤهم حِفْظَهُ من التوراةِ، أيْ : بسبب سُؤالِ أنبيائِهِمْ إيَّاهم أن يحفظُوه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ »، وهذا على أنَّ الضميرَ يعُودُ على الربانِيين، والأحبارِ، دُونَ النَّبِيِّين، فإنَّهُ قدَّرَ الفاعِلَ المحذُوفَ « النبيين »، وأجاز أن يعودَ الضميرُ في « استحفِظُوا » على النبيينَ والربانيينَ والأحْبار، وقدَّر الفاعل المنوبَ عنه : البَارِيَ تعالى، أيْ : بِمَا اسْتَحْفَظَهُم اللَّه تعالى، يعني : بما كَلَّفَهُمْ حِفْظَهُ.
وقوله تعالى :﴿ مِن كِتَابِ الله ﴾ ؛ قال الزمخشريُّ : و « مِنْ » فِي ﴿ مِن كِتَابِ الله ﴾ للتَّبْيينِ، يَعْنِي أنَّها لِبَيانِ جِنْس المُبْهَمِ في « بِمَا » فإنَّ « مَا » يجوزُ أنْ تكونَ موصُولَةً اسمِيَّةً بمعْنَى « الَّذِي »، والعائِدُ محذوفٌ، أيْ : بِمَا اسْتحْفظُوه، وأنْ تكونَ مَصدريَّةً، أيْ : باسْتِحْفَاظِهِمْ.


الصفحة التالية
Icon