وقرأ أبيّ :« فهو كفارته له »، أي : التصدق كفارة، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله :﴿ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
قوله تعالى :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ ﴾ أي : بالقصاص المتعلق بالنفس، أو بالعين أو بما بعدها، فهو أي : فذلك التصدقُ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه، وهو كقوله تعالى :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ المائدة : ٨ ].
والضمير في « له » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الظاهر : أنه يعود على الجاني، والمراد به وَلِيّ القصاص أي : فالتصدق كَفَّارة لذلك المتصدق بحقه، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى ].
والثاني : أن الضمير [ يراد به ] الجاني، [ والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني ]، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يُؤاخذ به.
قال الزمخشري :« وقيل : فهو كفارة له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة » فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] وقال ﷺ :« مَنْ تَصدَّقَ مِنْ جسدِهِ بِشَيءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقدرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ » وإلى هذا ذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - في آخرين.
الثالث : أن الضمير يعود على المتصدق أيضاً، لكن المراد الجاني نفسه، ومعنى كونه متصدقاً، أنه إذا جنى جناية، ولم يعرف به أحد، فعرف هو بنفسه، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد.
وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه، فلم يعرف الرجل من أصابه، فقال له عروة :« أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا » وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون « تصدَّق » من الصدقة، وأن يكون من الصِّدْق.
قال شهاب الدين : فالأول واضح، والثاني معناه أن يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم ﴾ يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط.
و « هم » في قوله :« هم الكافرون » ونظائره فصل أو مبتدأ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره.
فإن قيل : إنه ذكر أولاً قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] وثانياً :« هم الظالمون » والكفر أعظم من الظلم. فلماذا ذكر أعظم التهديدات، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon