مثال : أن قوله : تعالى :﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] أن هذا النفي في حقِّ الباري - تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تَبَدُّلِ ولا زوالٍ، وكذا قوله :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ] يَدُلُّ على كونه قائماً بنفسه غَنِيَّاً في ذَاتِهِ؛ لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم، وإذا ثبت هذا فقوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ يمتنع أن يُفِيدَ المَدْحَ والثناء، إلا إذا دَلَّ على معنى مَوْجُودٍ يفيد المَدْحَ والثناء، وذلك هو الذي قلنا : إنه تبارك وتعالى - قادرٌ على حَجْبِ الأبْصَارِ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته، فانْقَلَبَ الكلامُ على المعتزلة، وسَقَطَ الاستلال. واعمل أن القاضي ذَكَرَ وُجُوهاً أخر تَدُلُّ على نَفْيِ الرؤية، وهي خَارِجةٌ عن التَّمْسُّكِ بهذه الآية الكريمة.
فأولها : أن الحَاسَّة إذا كانت سَلِيمَةً، وكان المرئي حَاضِراً، وكان الشرائط المعتبرة حَاصِلَةً، وهو ألاَّ يحصل القُرْبُ القريب، ولا البعد البعيد، ولا يحصل الحِجَابُ، ويكون المرئي مقابلاً، أو في حكم المقابل، فإن يجب حُصُولُ الرؤية؛ إذ لو جاز مع حُصُولِ هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جَازَ أن يكون بِحَضْرَتَنَا بُوقَاتٌ وطبلاتٌ ولا نسمعها ولا نراها، وذلك يوجب السَّفْسَطَة وأذا ثبت هذا فنقول : إن انْتِفَاءِ القُرْبِ القريب، والبعد البعيد، والحِجَاب، وحُصول المُقابلةِ في حق الله - تعالى - ممتنع، فلو صَحَّتْ ريته لوَجَبَ أن يكون المقتضي لِحُصُولِ تلك الرؤية هو سَلامَةُ الحَاسَّةِ، وكون المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته.
وثانيها : أنَّ كل ما كان مرئياً كان مُقَابِلاً، أو في حكم المُقابلِ، والله - تعالى - ليس كذلك، فَوَجَبَ أن تمتنع رُؤيَتُهُ.
وثالثها : قال القاضي : ويقال لهم كيف يراهُ أهلُ الجنة دون أهْلِ الناء، فإما أن يقرب منهم أو يقابلهم، فيكون حاله معهم دُونَ أهْلِ النار، وهذا يوجب أن جِسْمٌ يجوز عليه القرب والبعد والحِجَابُ.
ورابعها : قال : أهْلُ الجَنَّة دون أهل النار يَرَونَهُ في كل حال عند الجِمَاعِ وغيره، وهو بَاطِلٌ، ويرونه في حالٍ دون حالٍ، وهو أيضاً باطل؛ لأن ذلك يوجب أنه- تبارك وتعالى - مرَّةً يقرب، وأخرى يَبْعد، وأيضاً فَرُؤيَتُهُ أعْظَمْ اللَّذَّاتِن وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون مُشْتهين لتك الرُّؤيَةِ أبداًن فإذا لم يَرَوْهُ في بَعْضِ الأوقات وقعُوا في الغَمِّ والحُزْنِ، وذلك لايليق بصفات أهل الجَنَّةِ، وهذه الوجوه في غاية الضَّعْفِ.
أمَّا الأول : فيقال : هَبْ أن الأجْسامَ والأعراضَ عند سلامة الحاسَّةِ، وحضور المرئي، وحصل سائر الشَّرائط واجبة فلم قلتم : إنه يلزم منه وُجُوبُ حصول الرؤية إذا كان المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ ذَاتَهُ تعالى مُخَالِفَةٌ لسائر الذوات، ولا يلزم من ثُبُوتِ حكمه في شيء ثُبُوتُ مثل ذلك فيما يُخَالِفُهُ.