فصل في المراد من الآية


قال ابن عبَّاس : يَعْني : ويحُول بينهم وبين الإيمانن فول جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة [ أي : كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره.
وقيل : كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة ] ؛ يعني : مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام-؛ كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ ﴾ [ القصص : ٤٨ ].
وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس : المرَّة الأولى : دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم؛ كقوله :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ].

فصل في بيان معنى التقليب


التَّقْلِيب، والقَلْب وَاحِد : وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه، وقدره، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار : هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها لعى صِدْق الرَّسُول ﷺ [ إلاَّ أنه تعالى ] إذا قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات.
قال الجُبَّائي : مَعْناه : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم ووأبْصَارهم في جَهَنَّم، على لَهِيب النَّار وجَمْرِهاح لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّلأ مرّة دَارِ الدُّنْيَا.
وقال الكَعْبِي : المُرَاد ب « ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم » : نفعل بهم كا نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ؛ بسبب كُفْرهم.
وقال القَاضِي : المراد : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كمال لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة.
أما قَول الجُبَّائيّ؛ فمدفوع؛ لأنه - تعالى - قال :« ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُمو أبْصَارهم » ثم عَطَفْ عليه، وقال :« ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون » فقوله :« ونَذرُهُم » لي مما يَحْصُل في الآخِرة، فكان سُوءاً للنَّظءم في كلام اللَّه- تعالى - حيث قدَّم المُؤخَّر، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة.
وأما قَوْل الكَعْبِي؛ فَضَعِيف؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسبن إضافه إلى الله تعالى في قوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾ أي : نقلب القَلْب باقٍ على حالةِ واحِدَة إلاَّ أنَّه - تعالى - أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل.

فصل


إنما قدَّم اللَّه - تعالى - ذكر تَقْليب الأفْئِدة على تَقْليب الأبْصَار؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [ فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْبَُ انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب ] انصرف البَصَر عَنْه هو، وإن كَانَ يُبْصِره بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الأبْصَار سَبَباً للُوقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾


الصفحة التالية
Icon