وأمَّا قِرَاءة البَاقِين هُنَا ففيها أوْجُه :
أحدهما : أن يكون « قُبُلاً » جمع قِبِيل، بمعنى : كَلِيل؛ « كرغيف » و « رُغُف »، و « قضيب » و « قُضُب » و « نَصِيب » ون « نُصُب ».
وانْتَصَابه حالاً.
قال الفرَّاء والزَّجَّاج : جَمْع قِبِيل بمعْنَى : كفيل أي : كَفِيلاً بِصِدْق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام-، ويقال : قَبَلْتُ الرِّجل أقْبَلُه قَبالة بفَتْح البَاء في الماضي والقاف في المَصْدَر، أي : تكفَّلْت به، والقَبِيل، والكَفِيل، والزَّعِيم، والأذِين والضّمِين، والحَمِيل، وبمعنى وَاحِد.
وإنما سُمِّيت الكَفَالة قَبَالة؛ لأنَّها أوْكَد تَقَبُّل، وباعْتِبَار معنى الكَفَالة سُمِّي العَهْد المَكْتوب : قَبالة.
وقال الفرًّاء في سُورة الأنعام :« قُبُلاً » جَمْع « قَبِيل » وهو « الكَفِيل » قال : وإنَّما اخْتَرت هنا أن يكُون القُبُل في المعنى الكفالة؛ لقولهم :﴿ أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] يَضْمَنُون ذلك.
الثاني : أن يَكُون جَمْع قِبِيل، بِمَعْنى : جماعةً جماعةً، أو صنْفاً صنفاً.
والمعنى :« وحَشَرْنا عَلَيْهم كلَّ فوْجاً فوْجاً، ونوْعاً نوْعاً من سَائِر المَخْلُوقات ».
الثالث : أن يكون « قُبُلاً » بِمَعْنى : قِبَلاً كالقِرَاءة الأولَى في أحد وجْهَيْهَا وهو المُواجَهة أي : مُواجَهَةً ومُعَايَنةً، ومنه « آتِيكَ قُبُلاً لا دُبُراً » اي : آتِيك من قِبَل وَجْهِك، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] وقُرئ :« لقبل عدتهن » [ الطلاق : ٤١ ]، أي : لاسْتِقْبَالها، وقال الفرَّاء :« وقد يكون قُبُلاً :» من قِبَل وُجُوهِهِم «.
وأمَّا الذي في سُورة الكَهْف : فإنه يَصِحُّ فيه مَعْنى المُواجهة، والمُعَاينة، والجماعة صنْفاً صنْفاً، لأن المُراد بالعَذَاب : الجِنْس، وسَيَأتي له مَزِيد بَيَان. و »
قُبُلاً « نَصْب على الحَالِ- كما مَرَّ - من » كلِّ «، وإن كان نكرة؛ لِعُمُومه، وتقدَّم أنَّه في أحد أوْجُهِهِ يُنْصَبُ على الظَّرف عند المُبَرِّد.
وأمّا قراءة الحسن فمخفَّفَة من المَضْمُوم، وقرأه أبَيُّ بالأصْل وهو المُفْرَدِ.
وأما قراءة طَلْحَة فهو ظَرْف مَقْطُوع عن الإضَافة، مَعْنَاه : أو يَأتِيَ باللَّه والملائِكَة قَبْلَه، ولكن كَانَ يَنْبَغِي أن يُبْنَى؛ لأن الإضافة مُرادَة.
قوله :»
مَا كَانُوا « جواب » لَوْ « وقد تقدَّم أنَّه إذا كَانَ مَنْفيّاً، امتَنَعت اللاَّم.
وقال الحُوفِي :»
التَّقْدِير لما كَانُوا حُذِفَت اللاَّم وهي مُرَادة « وهذا لَيْس بجيَّد؛ لأن الجواب المَنْفِي ب » مَا « يَقِلُّ دُخُولها، بل لا يَجُوز عند بَعْضِهم، والمَنْفِي ب » لم « مُمْتَنِع ألْبَتَّة.
وهذه اللاَّم لا م الجُحُود جارَّة للمصْدَر المؤوّل من »
أنْ « والمنْصُوب بِهَا، وقد تقدَّم تَحْقِيقه - بعون الله تعالى -.


الصفحة التالية
Icon