وأجاب الجُبَّائي عَنْه؛ بأن المُرَاد من هذا الجَعْل : الحُكم والبَيَان فإن الرَّجُل إذا حَكَم بِكُفْر إنْسَان، قيل : كإنه كَفَّرَه، وإذا أخْبر عن عَدَالتِه، قيل إنه عدّله، فكذا ههنا أنَّه - تعالى - لما بيَّن للرسول - ﷺ - كونهم أعْدَاء له لا جَرَم قال : إنَّه جعلهُم أعْدَاءً له وأجاب الأصَمُّ : بأنه - تعالى - لما أرْسَل محَمّداً ﷺ إلى العَلمِيَن، وخصَّه بِتِلْكَ المُعْجِزات، حسدُوه، وصار ذلك الحَسَد سَبَاً للعَداوَة القَوِيّضة فَلِهَاذا قال إنَّه - تعالى - : جعلهم أعْدَاء له ونَظِيرُه قول المُتَنَبِّي :[ الطويل ]
٢٢٨٧-............. | وأنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ [ لِيَ ] حُسَّدَا |
وهذه أوجوبه ضَعِيفَة لما تقدَّم الأفْعَال مُسنَدة إلى الدَّواعي، وهي حَادِثة من قبل اللَّه - تعالى- وإذا كان كذلك، صَحَّ مَذْهَبُنَا، ثم هَهُنا بَحْث آخر، وهُو أنَّ العَدَاوَة، والصداقة يمتنع أن تَحْصُل باخْتِيَار الإنْسَان؛ فإن الرَّجُل قد يَبْلُغ في عَدَاوَة غَيره إلى حَيْث لا يَقْدِر ألْبَتَّة على إزَالة تلك الحَالَةِ عن قَلْبَه، بل قَدْ لا يَقْدِر على إخْفَاء آثَار تلك العَداوة، ولو أتى بكل تَكِلُّفِ وحيلة، لعجز عنه، ولو كان حُصُول العَدَاوة والصَّداقة في القَلْبِ باختيار الإنْسَان، لوجَبَ أن يَكُونَ الإنْسَان متمكناً مِن قَلْب العَدَاوة بالصَّداقة، وبالعَكْس، فكيف لا، والشُّعَراء عَرَفُوا أنّ ذلك خَارجٌ عن الوُسْع قال المُتَنَبِّي [ المتقارب ]
٢٢٨٨- يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ | وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل |
فصل في معنى الآية
قال عِكْرمة، والضَّحَّاك، والكَلْبِي : المعنى : شَيَاطِين الإنْس الَّتِي مع شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنَّ إبْلِيس قَسَّم جنده فَرِيقَيْن، فبعث فَريقاً منهم إلى الإنْس، و فريقاً إلى الجِنِّ، وكلا الفَرِيقَيْن أعْداءٌ للنَّبِيِّ ﷺ ولأوْلِيَائه، وهم يَلْتَقُون في كل حين، فيقول شَيْطان الإنْس لشيطان الجنِّ : أضَلْلت صَاحِبي بكَذا، فأضلل صَحِبك بِمُله، ويقول شَيْطَان الجن لشيطان الإنس كذلك. فلذلك وصَّى بَعْضُهم إلى بَعْض.
وقال قتَادة، وَمُجاهِد، والحَسَن : إن من الإنْس شَيَاطين، كما أن من الجنِّ شياطين، والشَّيْطَان الثَّاني المتمرد من كُلِّ شَيْء.
قالُوا : إن الشَّيْطان إذا أعْيَاه المُؤمِن، وعَجز عن إغوائه، ذهب إلى مُتَمَرِّد من الإنْس : وهو شَيْطَان الإنْس، فأغراه بالمُؤمِن ليفتنه، يدلُّ عليه ما « رُوِي عن أبِي ذرِّ، قال : قال رَسُول الله ﷺ هل تَعَوَّذت باللَّه من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، قلت يا رسُول الله، وهل للإنْس من شَيَاطين، قال نَعَمْ، هم شرُّ من شَيَاطين الجِن ».