أجاب المُعْتَزِلَة عنه من ثلاثة أوْجُه :
الأول : قال الجُبَّائي : إن هذا الكلام خرج مَخْرج الأمر، ومعناه : الزَّجْر؛ كقوله - تبارك وتعالى - :﴿ واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم ﴾ [ الإسراء : ٦٤ ] وكذا قوله :« وَلِيَرْضَوْه، ولِيقْتَرِفُوا » وتقدير الكلام : كأنَّه قال للرَّسُول - عليه السَّلام- :« فّذرْهُم وما يَفْتَرون » ثم اقال لَهُم على سَبِيل التَّهديد « ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَتُهم، وليَرْضَوه وليقترفوا ما هُم مُقْتِرَفُون ».
الوجه الثاني : قال الكَعْبِي إنّ هذه اللاَّم لام العاقبة، أي : ستئول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحْوال.
قال القَاضِي : ويبعُد أن يقال : هذه العاقبة تحصُل في الآخِرة؛ لأن الإلْجَاء حَاصِل في الآخِرَة.
قال : فلا يجُوز أن تِمَيل قُلُوب الكُفَّار إلى قُبُول المَذْهَب البَاطِل، ولا أن يَرْضَوْه، ولا أنْ يقترفوا الُّنُوب، بل يَحْبُ أن تُحْمَل على أنَّ عاقبة أمْرِهم في الدُّنْيَا تئول إلى أنْ يَقْبَلوا الأبَاطِيل، ويرضوا بها، ويَعْملُوا بها.
الوجه الثالث : وهو الذي اختاره أبو مُسْلِم، قال : اللاَّم في قوله :« ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ » متعلِّق بقوله :« يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً » والتَّقْدير : أن بَعْضَهم يُوحِي إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل ليغُرُّوا بذلك، ﴿ ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ ﴾ الذُّنُوب، ويكون المُرَاد أنَّ مَقْصُود الشَّياطين من ذلك الإيحاء : هو مَجْمُوع هذه المَعَانِي.
والجواب عمّا الجُبَّائي من وُجُوه، ذكرها القَاضِي :
أحدها : أن الواوَ في قوله :« ولِتَصْغَى » تقتضي تَعَلُّقَه بما قبْلَه، فحملُه على الابتداء بَعيدٌ.
وثانيها : أن اللاَّم في قول :« ولِتَصْغَى » لام كَيْ، فيبعد أن يُقَال إنَّه لام الأمْر، ويَقْرُب ذلك من أنْ يَكُون تَحْرِيفاً لِكَلام اللَّه- تعالى-، وأنه لا يَجُوز، وأمَّا قول الكَعْبِي : بأنَّها لام العَاقِبَة، فضعيفح لأنهم أجْمَعُوا على أن هذا مَجَازٌ، وحَمْلُه على « كي » حَقِيقةً أوْلى، وأمَّا قَوْل أبِي مُسَلم، فهو أحسنُها، إلاَّ أنْ قوله :« يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْلِ غُرُواً » يقتضي ان يكُون الغَرَض من ذلك الإيحاء : هو التَّغْرير، وإذا عَطَّفْنَا عليه قوله :« ولِتَصْغَى إليْه أقْئِدَة » فهذا أيضاً عَيْن التغرير، لا معنى التغرير؛ لأنه يَسْتَمِيل إلى ما يكون بَاطِنُه قَبِيحاً، وظاهره حَسَنَاً.
قوله :« ولِتَصْغَى إليه أفْئِدَة » عين هذه الاسْتِمَالة فلو عَطَفْنَأ عليه، لَزِم أن يَكُن المَعْطُوف عين المَعْطُف عَلَيْه، وأنَّه لا يجوز، أمَّا إذا قُلْنَا : تَقْدير الكلام : وكذلك جَعَلْنَا لكُلِّ نَبِيّ عُدُوّاً من شَأنه أن يُوحِي زُخْرُف القَوْل؛ لأجل التَّغرير، وإنما جَعَلْنا مثل هذا الشَّخْص عَدُواً للنَّبِي؛ لتصْغَى إليه أفْئِدَة الكُفَّار، فَيَبْعُدوا بذلك السَّبَبِ عن قُبُول دَعْوة ذلك النَّبِيِّ، وحنيئذٍ لا يَلْزَم منه عَطْف الشَّيء على نَفْسِه، فما ذَكَرنَاه أوْلى.
فصل في معنى الإنسان
قالوا : الإنسان شيء مُغَاير للبَدَن، ثم اخْتَلَفُوا : منهم من قال : المُتَعلِّق الأوَّل هو القَلْب، وبواسطته تتعلَّق النَّفْس؛ كسائر الأعْضَاء، كالدِّمَاغ، والكَبْد، ومنهم مَنْ قَال : القَلْب متعلِّق النَّفس الحَيَوانيَّة، والدِّمَاع متعلَّق النَّفْس النَّاطِقَة، والكَبِد متعلَّق النَّفْس الطَّبِيعيَّة، والأوَّلون تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة؛ فإنه - تبارك وتعالى - جَعَل مَحَلَّ الصَّغى الذي هُو عِبَارة عن المَيْل والإرادة : القَلْب، فدلّ على أنَّ مُتعلِّق النَّفْس : القَلْب.