قوله :« وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم » قرأ ابْنُ كَثِير، وأبُو عَمْرو، وابنُ عَامِر : ببنائهما للمفعُول : ونافع، وحفصٌ عن عاصم : ببنَائِهَما للفاعل، وحمزة، والكسَائِيُّ، وأبُو بكر عن عاصم : ببناء الأوَّل للفاعل، وبناء الثُّانِي للمَفْعُول، ولم يأتي عكس هذه، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من « فَصَّل » والقَائِم مقام الفاعل : هو المَوْصُول، وعائده من قوله :« حرَّم عَلَيْكُم ». والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه - تعالى -، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ.
فصل في المراد من الآية
قوله :« فَصَّل لَكُم ما حرَّم عَلَيْكُم » قال أكثر المُفَسِّرين : هو المُراد من قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير ﴾ في أوَّل المائدة [ الآية : ٣ ]، وفيه إشْكَالٌ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه - تعالى - بالمدينة، فقوله :« فصَّل » يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً، ولقَائِل أن يقول : المُفَصّل : هو قوله - تبارك وتعالى- بعد هذه الاية الكريمة :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ]، الآية، وهي هو المُرَاد، خُصُوصاً أن بعد هذه الآية بقليل، إلا أنَّ هذا القَدْر من التَّاخير لا يمنع أن يكُون هو المُرَاد، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم، فيكون في حُكْم المُقارن.
قوله :« إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه » في الاسْتِثْنَاء وجهان :
أحدهما : أنَّه مُنْقَطِع، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي.
والثاني : أنه [ اسْتِثْنَاء ] متَّصِل.
قال أبو البقاء :« ما » في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى؛ لأنه وبِّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً.
قال شهاب الدِّين : الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى، ثم قال :« وقوله :» وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم عليكم « أي : في حَالِ الاخْتِيَار، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ ».
قوله :« وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون » قرأ الكوفيُّون بضمِّ الياء، وكذا الَّتِي في يُونس :﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ ﴾ [ الآية : ٨٨ ] والباقون : بالفَتْح، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها، والقراءتان واضِحَتَان؛ فإنه يٌقال : ضلَّ في نَفْسَه، وأضَلَّ غيره، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين : وهي أبْلَغ في الذَّمِّ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم، وأضَلُّوا غيرهم؛ كقوله - تعالى- :﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل ﴾ [ المائدة : ٧٧ ].
قيل المُراد بِه : عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً : فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في « ص » عند قوله :