قال المعتزلة : لنا هَهُنَا مَقَامَان :
الأوَّل : في بَيَان أنَّهُ لا دلالة لَكُم في هَذِه الآية الكريمة.
الثاني : التَّأويل المُطابق لمذْهَبنا.
أما المقام الأول : فتَقْرِيرُه من وُجُوه :
أحدها : أن هذه الآية الكريمة لَيْسَ فيها أنه - تبارك وتعالى - أضَلَّ قَوْماً أوْ يُضِلُّهم؛ لأنَّه لَيْسَ فِيَهَا إلاَّ أنه [ مَتَى أرَاد أن يَهْديَ إنْساناً، فعل به كَيْتَ وكَيْتَ، وإذا أرَادَ إضْلالهُ فعل كَيْتَ كَيْتَ، ولَيْست الآيةُ أنَّه ] - تعالى يُريد ذَلِكَ أو لا يُريدُ ذلك، ويدُلُّ عليه قولُه - تبارك وتعالى - :﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٧ ]، فبين أنه - تبارك وتعالى- كَيْفَ يفْعَل اللَّهْو لو أرَادَهُ، ولا خِلاف أنَّه - تبارك وتعالى - لا يُرِيُد ذلك ولا يَفْعَلُه.
وثانيها : أنه - تعالى - لم يَقُل : ومن يُرد أن يُضِلَّه عن الإسلام، بل قال :« ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ » فلم قُلْتُم : إن المُرَادَ : ومَنْ يُرِد أنْ يُضْلِلْهُ عن الإيمان.
وثالثها : أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في آخرِ الآية الكريمة، أنه إنَّما يَفْعَلُ هذا الفِعْلَ بهذا الكَافِرَ جَزاءً على كُفْرِه، وأنَّه ليس ذلك على سَبيل الابْتِدَاء، فقال :﴿ كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
ورابعها : أنّ قوله - تبارك وتعالى- :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ يدلُّ على تقدم الضِّيق والحَرَج على حُصُول الضِّلالِ، وأن لِحُصُول ذَلِك المتقدِّم أثَرٌ في حُصُول الضِّلالِ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْمَاعِ، أما عِنْدَنا، فلا نَقُول بِهِ وأمَّا عندكم؛ فلأن المقْتَضي لِحُصُول الجَهْلِ والظِّلالِ هو الله - تبارك وتعالى - يَخْلُقُه فيه بِقُدْرَتِهِ.
وأما المقام الثاني : فهو تَفْسير الآية الكريمة على ما يُطَابِقُ مَذِهَبَنا، وذلك من وُجُوهٍ :
الأول : وهو اخْتِيارُ الجُبَّائي، ونَصَرَهُ القَاضِي أن تَقْدِير الآية الكريمة : فمن يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَه إلى طَريق الجَنَّةِ، يَشْرَح صَدْرَه للإسْلام، حتنى يَثْبُت عَلَيْه ولا يَزُولُ عنه، وتَفْسِيره هذا الشَّرْح : هو أنَّه - تعالى - يَفْعَلُ به الْطَافاً تَدْعُوه إلى البقاءِ على الإيمانِ يَدْعُوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه، وإليه الإشارةُ بقوله - تبارك وتعالى - :﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [ التغابن : ١١ ] وبقوله :﴿ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ]، فإذا آمن العَبْد وأراد ثَبَاتَهُ على الإيمانِ، فحينئذٍ يَشْرَح صَدْرَه، أي : يَفْعَلُ به الألْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِ ثَبَاتَهُ على الإيمان ودَاوامَهُ عليه، وأمَّا إذا كَفَر وعَانَد وأراد اللَّه٠ تبارك وتعالى- أن يُضِلَّهُ عن طَرِيق الجنَّة، فعند ذلك يُلْقِي في صَدْرِه الضِّيق والحَرَج، ثم سألَ الجُبَّائي نَفْسَه، فقالك كَيْف يصِحُّ ذلك ونَجِد الكُفَّار طيِّبي النُّفُوس، ولا غَمَّ لهم ألْبَتَّة ولا حُزْنَ.


الصفحة التالية
Icon