وقالوا : لا يجوز أن يَكُونَ لله رَسُولٌ يأتي عليه وَقْتٌ من الأوْقَاتِ إلا وهو مُوَحِّدٌ به عارف، ومن كُلِّ معبود سواه بَرِيءٌ، وكيف يتوهَّمُ هذا على من عَصَمَهُ الله وطَهَّرَهُ وآتاه رُشدَهُ من قَبْلُ، وأخبر عنه فقال تعالى :﴿ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٨٤ ].
وأراه ملكوت السَّمواتِ والأرض، أفتراه أراه الملكُوتَ ليُوقِنَ؟ فلما أيْقَن رأى كوكباً قال :« هذا ربي » معتقداً فهذا لا يكون أبداً.
واحتجوا بوجوه :
أحدها : أن القول بِرُبُبيَّةِ الجماد كُفْرٌ بالإجماع، والكفر لا يجوز على الأنْبِيَاءِ- عليهم الصلاة والسلام - بالإجماع.
والثاني : أن إبراهيم - ﷺ - كان قد عرف رَبَّهخُ قَبْل هذه الواقعة بالدليل؛ لأن أخر عنه أنه قال قَبل هذه الواقعة لأبيه آزر ﴿ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٧٤ ].
الثالث : ؛كي عنع أنه دعا أباه إلى التَّوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصْنامِ بالرِّفْقِ حيث قال :﴿ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٤٢ ] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباهُ إلى التوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصنام بالكلام الخشن، ومن المعلوم أن من دعا غَيْرَهُ إلى الله، فإنه يُقَدِّمُ الرِّقْقَ على العُنْفِ، ولا يخوض في التَّغْلِيظِ إلا بعد اليَأسِ التام، فدلَّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مراراً، ولا شكَّ أنه إنما اشْتَغَلَ بدعوة أبيه بعد فراغِهِ من مُهْمِّ نفسه، فَثَبَتَ أن هذه الواقعة إنما وَقَعَتْ بعد أن أراه الله مَلَكُوتَ السَّمواتِ والأرض، ومن كان مَنْصِبُهُ في الدِّين كذلك، وعلمه بالله كذلك، فكيف يليق به أن يعتقد ألُوهيَّة الكواكِبِ؟
الرابع : أنَّ دلائل الحُدُوثِ في الأفْلاكِ ظَاهِرَةٌ من وجوه كثيرة، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العُقلاءِ نَصِيباً من العَقْلِ والفَهْمِ أن يقول بربوبية الكواكب فَضْلاً عن أعْقَلِ العُقلاءِ، وأعْلَمِ العلماء؟
الخامس : أنه قال في صفته ﴿ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٨٤ ] وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٥١ ] أي : آتيناه رشده من قَبْلِ أوَّل زمان الفكرة وقوله « وكنا به عالمين » أي بطهارته وكمالهن ونظيره قوله تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
السادس : قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين ﴾ [ الأنعام : ٧٥ ] أي : بسبب بتلك الإراءة يكون من الموقنين، ثم قال بعده :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾ و « الفاء » تقتضي الترتيب، فدلَّت الفاء في قوله :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾ على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربِّهِ.
السابع : أن هذه الواقعة إنما حَصَلَتْ بسبب مُنَاظَرَةِ إبراهيم عليه السلاة والسلام مع قومه، لأنه - تعالى - لما ذكر هذه القصة قال :


الصفحة التالية
Icon