والثاني : أن العَامِل فيها فِعْلٌ مَحْذُوف، أي : يَثُوُون فيها خَالِدِين، ويَدُلُّ على هذا الفِعْلِ المقدَّرِ « مَثْوَاكُمْ » ويراد ب « مَثْوَاكُمْ » مكان التَّواءِ، وهذا جوابٌ عن قول الفَارِسيَ المعْتَرِض به على الزَّجَّاج.
الثالث : قاله ابو البقاء : أنَّ العَامِل معنى الإضافة، ومعنى الإضافةِ لا يَصْلُح ان يكون عَامِلاً ألْبَتَّة، فليس بِشَيْءٍ.
قوله :« إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ » اختلفُوا في المسْتَثْنَى منه :
فقال : الجُمْهُور : هو الجُمْلَة التي تَلِيها، وهي قوله :﴿ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدين فِيَهاَ ﴾ وسأتي بيانه عن قُرْب.
وقال أبو مُسْلِم :« هو مستَثْنَى من قوله :» وبَلَغْنا أجَلَنَا الَّذِي أجَّلْتَ لَنَا « أي : إلا مَنْ أهْلَكْتَهُ واخْتَرَمْتَه قبل الأجَلِ الذي سَمَّيْتَه لِكُفْره وضلاله ». وقد ردَّ النَّاس عليه هذا المَذْهَب من حَيْثُ الصِّناعة، من حَيْثُ المَعْنى. أمَّا الصِّناعة فَمِنْ وَجْهَين :
أحدهما : أنَّه لو كان الأمْرُ كذلك، لكان التَّرْكيبُ « إلاَّ ما شِئْتَ » ليُطابق قوله :« أجَّلْتَ ».
والثاني : أنه قَدْ فصل بين المُسَتثْنَى منه بقوله :« قَالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدينَ فيها » ومثل ذلك لا يَجُوزُ.
وأما المَعْنَى : فلأن القَوْل بالأجَلَيْن : أجل الاخْتِرام، والأجَل المسَمَّى باطل؛ لدلائل مقرَّرَة في غَيْر هذا الموضع.
ثم اختلفوا في هذا الاسْتِثْنَاء : هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ؟ على قولين :
والمعنى :« قال النَّار مَثْواكُم إلاَّ مَنْ مِنْكُمْ في الدُّنْيَا » كقوله :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾ [ الدخان : ٥٦ ] أي : لكن الموْتَة الأولى، فإنهم قَدْ ذَاقُوهَا في الدنيا كذلك هذا؛ لكن الِّذِين شَاءَهُم الله أن يُؤمِنُوا مِنْكظُم في الدُّنيا، وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرُون إلى أنَّه مُتَّصِلٌ، ثم اخْتَلَفُوا في المسْتَثْنَى منه مَا هُو؟
فقالك قوم : هو ضمير المخَاطَبين في قوله :« مَثْوَاكُمْ » أي : إلا من آمن في الدُّنْيَا بعد أن كان من هؤلاء الكفرة، علله ابن عبَّاسٍ، و « ما » هُنَا بمعنى « مَنْ » التي لِلْعُقلاءِ، وساغ وُقُوعها هُنَا؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف، و « ما » تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ].
ولكن قد اسْتُبِعد هذا؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم علهيما، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ، لو قالت :« قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً »، وكان مَعْنَاه [ إلا زَيْداً فإنه لم يَقُمْ، ولا يَصِحُّ أن يكون المَعْنَى : فإنه سيَقُومُ في المسْتَقْبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره.