الوجه الثاني : أنكمن تَقُولون : لو كَانَت أفْعَالُنا واقِعة على خلاف مشيئَة الله - تعالى، لكنَّا قد غَلَبْنَا الله وقَهْرَنَاه، وأتينا بالفِعْل عَلَى مُضادَّتِه، وذلك يُوجِب كونه عَاجِزاً ضَعِيفاً، وذلك يَقْدَح في كونه إلهاً، فأجاب الله - تبارك وتعالى - عنه : بأن العَجْز والضَّغعْف إنما يَلْزَم إذا لم يَكُن قَادِراً [ على حمْلِهِم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجاء، وأنا قَادِرٌ ] على ذلك، وهو المُرَادُ من قوله :« فَلَوْ شاء لهداكم أجْمَعِين »، إلا أني لا أحْمِلكم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجَاءِ؛ ن ذلك يُبْطِل الحِكْمَة المطْلُوبة من التَّكْلِيف، فثب بهذا البَيَان أن الَّذِي يَقُولُونه من أنَّا لو أتَيْنَا بَعمَل على خِلاف مَشِيئَة الله - تعالى - فإنه يَلْزَم منه كَوْنه - تعالى - عاجزاً ضَعِيفاً، كلام باطل.
قال ابن الخطيب : والجواب المعْتمَد في هذا الباب أن نَقُول : إن هذه السُّورة من ألوها إلى آخِرِها تدلُّ على صِحَّة قولنا ومذهبنا ونَقَلْنَا في كل آيَةٍ ما يَذْكُرُونه من التَّأوِيلاَت، وأجَبْنَا عنها بأجْوبة واضِحَةٍ قويَّةٍ مؤكَّدة بالدّلائل العَقْلِية القَاطِعَة.
وإذا ثبت هذا؛ فنقول : إنه - تبارك وتعالى - حكى عن القَوم بأنَّهم قَالُوا :« لَوْ شَاءَ اللَّه ما أشْرَكْنَا » ثم ذكر عَقِيبَه « كذلك كذَّب الذين من قَبْلِهم » فهذا يدلُّ على أن القَوْم قالوا : لمَّا كان الكُلُّ بمشِيئَة اللَّه وتقديره :« ان التَّكْلِيف عَبَثاً، فكانت دَعْوى الأنْبِيَاء باطِلة، ونُبُوِّتُهم ورسالَتُهم باطلة، ثم إن - تبارك وتعالى - بيَّن أن التَّمَسُّك بهذا الطّرَِيق في إبْطَال النُّبُوة بِاطِلٌ، وذلك لأنَّه إله يَفْعَل ما يشاء ويَحْكُم ما يُريد، ولا اعتراض لأحد عَلَيْه، فهو - تبارك وتعالى - يشاء الكُفْر من الكَافِر، ومع هذا يبْعَثُ إليه الأنْبِيَاء، ويَأمُرُه بالإيمان، وورود الأمْر على خِلاف الإرَادة غير مُمْتَنِع.
فالحاصل : أنه- تبارك وتعالى - بيَّن أن هذا الاستدلال فاسدٌ باطلٌ؛ فإنه لا يَلْزَم من ثُبُوت المشيئة للَّه في كل الأمُور على دَفْع دعْوَة الأنْبِيَاء فيكون الحاصل : أنَّ هذا الاسْتِدْلال بِاطِلٌ [ وليس فيه ألْبتَّة ما يدُلُّ على أن القَوْلَ بالمشِيئَة بَاطِلٌ ].