لما عَلِم رسُول الله ﷺ وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظم دلائِلَ التَّوْحِيدن والردِّ على القَائِلِين بالشُّرَكَاء والأضْداد، وبالغ في تَقْرير إثْبَات القَضَاءِ والقدر، ورد على أهل الجاهليَّة في أبَاطِيلهم أمَرَهُ- ﷺ - أن يَخْتِم الكلام بقوله :« قُلْ إنِّنِي هَدَاني ربِّي إلى صراطٍ مُسْتَقيمٍ »، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الهِدَايةَ لا تَحْصُل إلاَّ باللَّه - تباك وتعالى سبحانه-.
وقال القُرطُبِيُّ- رحمه الله تعالى- :« لمّا بيَّن أنَّ الكُفَّار تفرَّقُوا، بيَّن أنَّه - تعالى- هَدَاهُ إلى الصِّراط المُسْتَقيم، وهو مِلَّة إبراهيم- عليه الصلاة وأتم التسليم ».
قوله :« دِنياً » : نَصْبُه من أوْجُه :
أحدها : من نصب على الحال، قال قُطْرُب وقيل : إنَّه مصدر على المَعْنَى، أي : هَدَانِي هدايةَ دينٍ قيِّم، أو على إضْمَار :« عَرَّفَنِي ديناً » أو الْزَمُوا دِيناً.
وقال أبُوا لبقاء- رحمه الله عليه- : إنه مفعُول ثانٍ ل « هَدَاني » وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المَفْعُول الثَّاني هُنَا هو المَجْرُور ب « إلى » فاكتُفِي بِهِ.
وقال مكِّي - رحمه الله تعالى عليه- :« إنَّهُ منصُوبٌ على البدل من محلِّ إلى صِراطٍ مُسْتقيمٍ ».
وقيل : ب « هَدَانِي » مقدِّرة لدلالة « هَدَانِي » الأوَّل عليها وهو كالذي قَبْلَه في المعنى.
قوله :« قِيماً » قرأ الكُوفيُّون، وابن عامِر : بكسر القافِ وفتح الياء خفيفة، والباقون بفَتْحِها، وكَسْر اليَاء مشدَّدة، ومعناه : القَوِيم المُسْتَقِيم، وتقدَّم تَوْجِيه إحْدى القراءتَيْن في النِّسَاءِ والمَائِدة.
قال الزَّمَخْشَري - رحمه الله عليه- : القيم :« فَيْعِل » من « قام » كسيِّد من سَادَ، وهو أبْلغُ من القَائِم.
وأمَّا قِرَاءة أهْلِ الكُوفَة فقال الزَّجَّاج - رحمه الله عليه- : هو مَصدر بمعنى : القيَام، كالصِّغَر والكِبر والجُوع والشبع، والتَّويل : ديناً ذا قَيِم، ووصف الدِّين بهذا المَصْدر مُبالغة.
قوله تعالى :« مِلَّة » بدلاً من « ديناً » أو مَنْصُوبٌ بإضْمار أعني، و « حنيفاً » قد ذكر في البقرة والنساء.
والمعنى : هداني وعرَّفَنِي ملَّة إبراهيم حال كَوْنِها موصُوفة بالحنيفيَّة، ثم وصف إبراهيم - ﷺ - بقوله :« وما كان من المُشْركين » والمقْصُود منه : الردُّ على المُشْرِكين.