وقد أجَازَ الحُوفِيُّ أن تكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف لقوله :« ولا تَتَّبِعُوا » أي : ولا تَتَّبِعُوا من دونه أوْلِيَاءَ اتِّبَاعاً قليلاً، وهو ضعيف؛ لأنه يصيرُ مَفْهُومُهُ أنَّهم غير مَنْهيِّين عن اتِّبَاعِ الكَثيرِ، ولكِنَّهُ مَعْلُومٌ من جهة المَعْنَى، فلا مَفْهُوم لَهُ.
وحكى ابْنُ عطيَّة عن أبِي عَلِيٍّ أنَّ « مَا » مصدرية موصولة بالفِعْلِ بَعْدَها، واقْتَصَرَ على هذا القَدْر، ولا بُدَّ لَهُ من تَتِمَّة، فقال بعض الناس : ويكون « قَلِيلاً » نعت زمان محذوف، وذلك الزَّمَانُ المحذوف في محلِّ رفع خبر مقدّماً و « مَا » المصدريَّةُ، وما بَعْدَها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتَّقدِيرُ : زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي : أنَّهُم لا يقع تذكرهم إلا في بعض الأحْيَانِ ونظيره :« زمناً قليلاً قيامك ».
وقد قِيلَ : إنَّ « ما » هذه نَافِيَةٌ، وهو بعيد؛ لأن « ما » لا يَعْمَلُ ما بَعْدَهَا فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تَسْلِيم ذلك فيصيرُ المعنى : ما تذكرون قليلاً، وليس بِطَائِلٍ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٧ ] عند من جعلها نافية.
وهناك وَجْهٌ لا يمكن أن يأتي ههنا وهو أن تكون « مَا » مصدريَّةٌ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب « قَلِيلاً » الذي هو خبر كان، اولتقدير : كانُوا قليلاً هُجُوعُهُم، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحَّةِ نصب « قليلاً بقوله :» وَلاَ تَتَّبِعُوا « حتى يجعل » ما تَذَكَّرُون « مرفوعاً به. ولا يجوز أَن يكون » قَلِيلاً « حالاً من فاعل » تَتَّبِعُوا « و » ما تَذَكَّرُونَ « مرفوعاً به، إذْ يصيرُ المعنى : أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال قلَّة تذكرهم، وليس ذلك بمُرَادٍ.
وقرأ ابن عامر :»
قَلِيلاً ما تَذكرُونَ « باليَاءِ تَارةً والتَّاءِ أخرى، وقرأ حَمْزَةُ والكِسَائِي وحفص عن عاصم بتاء واحدة وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذَّالِ.
قال الواحِديُّ :»
تذكَّرُون « أصله » تتذَكَّرُونَ « فأدغمت تاء تفعل في الذَّال؛ لأنَّ التَّاء مهموسة والذَّال مجهورة، والمجهور أزيد صوتاً من المَهْمُوسِ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، و » مَا « موصولة بالفِعْلِ، وهي معه بِمَنْزلَةِ المصْدَرِ فالمعنى : قَلِيلاً تَذَكُّرُكُمْ.
وأمَّا قراءةُ ابْنِ عامر »
يَتَذكَّرُونَ « بياء وتاء فوجهها أنَّ هذا خطابٌ للنَّبِيِّ ﷺ أي : قَلِيلاً ما يتذكرون هؤلاء الَّذِينَ ذُكِّرُوا بها الخِطَابِ.
وأمَّا قراءةُ الأخَوَيْنِ، وحفص خفيفة الذَّالِ شدِيدَة الكَافِ، فقد حَذَفُوا التي أدْغَمَهَا الأوَّلُون، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في الأنعام.


الصفحة التالية
Icon