لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [ آدم ] وجعله مسجود الملائكة، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن.
واختلف النَّاسُ في « ثُمَّ » في هذين الموضعين : فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [ فيها ] ترتيباً، وجعلها بمنزلة « الواوِ » فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة « اسْجُدُوا ».
ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا.
ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ.
ومنهم من قال : الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ.
واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم : أنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقديرُ : ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم - ﷺ - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له، ولأنه أصلُ الجميع، والتَّرتيب أيضاً واضح.
وقال مجاهدٌ : المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ.
قال النَّحَّاسُ : وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ، ثمَّ كان السُّجُود [ بعد ذلك ] ويُقَوِّي هذا قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ].
وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ، فأخذ عليهم الميثاق.
وقال بعضهم : المُخَاطِبُ بَنُو آدم، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ، والمُرَادُ به غيره كقوله :﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [ البقرة : ٤٩ ]، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم. وهذا مستيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك :[ الطويل ]
٢٤٠٩ - إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا | وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ |
عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ | وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم. |
ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً. فقال بعضهم : المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و « ثُمَّ » الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ.
وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم.
وقال بعضهم :[ ولقد خلقنا ] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ في « المعتمد ».
وقال بعضهم : خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ.
وقال بعضهم : ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ، ف « ثمَّ » الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ، والثانية للترتيب الإخباري أي : ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة.
وقيل : إنَّ « ثُمَّ » الثانية بمعنى « الواو » [ أي ] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب.