إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ؛ كقوله :[ الوافر ]

٢٤١٥ - مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا .........................
[ وقوله ] :[ الطويل ]
٢٤١٦ -......................... لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي
[ وقوله ] :[ الطويل ]
فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي ........................
أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ، والتَّقديرُ : لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ.
وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّ « صِرَاطكَ » ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه، بل ب « في » تقول : صلَّيْتُ في المسجد، ونمت في السُّوقِ. ولا تقول : صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك، كان شاذّاً؛ كقولهم « رَجَعَ ادْرَاجَهُ » و « ذَهَبْتُ » مع « الشَّام » خاصَّة أو ضرورةً؛ كقوله :[ الطويل ]
َزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ َفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
في خَيْمتَي، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر :[ الكامل ]
َدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ ِيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
يتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل « الصِّراط » و « الطَّريقَ » في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن. وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه، وحدود تحصره، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل.
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. والتقديرُ : لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه.

فصل في معنى إغواء إبليس


قول إبليس « فَبِما أغْوَيْتَنِي » يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى -، وقوله في آية أخرى :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٢ ] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد غلى نفسه، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [ أهل ] القدر، وهذا يدلُّ على أنه طكان متحيراً في هذه المسألةِ. وقد يقال : إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل.
واختلفُوا في تَفْسير هذه الكَلِمَةِ، فقال أهْلُ السُّنَةِ : الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل أنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ.
وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ.
أحدها : أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه، ويعتذروا عنه بوجوه.
منها : أن قالوا : هذا قول إبْليسَ، فهب أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ، والجهلِ، والكفرِ هو الله، إلاَّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ.
ومنها قالوا : إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى، وقد يَقُولُ القائِلُ : لا تحملني على ضَرْبِكَ أي : لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ.


الصفحة التالية
Icon