والثاني : أنَّهُ مفعول به ل « شيئاً »، وإنما كان الأوَّلُ أظْهَرَ لوجهين :
أحدهما : أن الكلام المؤكّد أقوى وأثبت في النَّفْس من غير المؤكّد.
والثانهي : أنَّهُ قد تقدَّمَ أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلاَّ إذا كان فيهما غرابة كقوله :[ الطويل ]
٢٢٢٦- وَلَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ | .......................... |
فصل في بيان معنى الاستثناء
إنما ذكر عليه الصًّلاة والسَّلام هذا الاستثناء؛ لأنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المَكَارِهِ، والحَمْقَى من الناس يحملون ذلك على أنَّهُ إنما حَدَثَ ذلك المكروه بسبب أن طَعَنَ في إليه الأصنام، فذكر إبراهيم- عليه الصَّلاة والسَّلام- ذلك حتى إنَّهُ لو حَدَثَ به شيء من المَكَارِهِ لمي يحمل على هذا السبب.
وقوله :« وسِعَ ربِّي كُلَّ شَيءٍ عِلْماً » يعني : أنه عالم الغيوب، فلا يفعل إلاَّ الخير والصلاح والحكمة، فبتقدير أن يحدث من مَكَارِهِ الدنيا شيءٌ، فذلك؛ لأنه - تعالى - عرف وَجْهَ الصَّلاحِ والخير فيه، لا لأجل أنه عقوبة على الطّعن في إلهية الأصْنَام.
قوله :« علماً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ، تقديره :« وسع علم ربّي كُلَّ شيء » كقوله :﴿ واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ [ مريم : ٤ ] أي : شيب الرأس.
والثاني : أنه مَنصُوبٌ على المفعولِ المطلق، لأن معنى وَسِعَ : عَلِمَ.
قال أبو البقاء :« لأنَّ الشَّيْءَ فَقَدْ أحَاطَ به، والعالم بالشيء مُحيطٌ بعلمه ».
قال شهابُ الدِّين : وهذا الَّذِي ادَّعَاهُ من المجاز بعيدٌ.
و « كل شيء » مفعول لت « وسع » على التقديرين.
و « أفَلا تَتَذَكَّرُونَ » جملة تقرير وتوبيخ، ولا مَحَلَّ لها لاستئنافها، والمعنى : أفلا تتذكرون أن نَفْيَ الشركاء والأضداد والأنداد عن اللَّهِ لا يوجبُ حلول العذاب ونزول العقاب، والسَّعْي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العذاب والعقاب.