قال القرطبي : لما بيَّن أنَّهم حرَّموا من تِلْقاءِ أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، بيَّن هنا إباحة الزِّنةِ، والمُرَادُ بها الملبس الحسن ذا قدر عليه صاحبه وقيل : جميع الثّياب.
وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ والإنكار، وإذا كان للأإنكار فلا جواب له؛ إذ لا يُرادُ به استعلام، ولذلك نسب مَكيٌّ إلى الوهم في زعمه أنَّ قوله :« قُلْ هِيَ للذِيْن آمَنوا.. إلى آخره » جوابه.
قوله :« زينة الله » قال ابن عباس وأكثر المفسرين : المراد به اللِّباس الذي يَسْتُرُ العَوْرَة.
وقيل : جميع أنواع الزينة، فيدخل فيه جميع أنواع المَلْبُوسِ، ويدخلُ تحته تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخلُ تحته الرّكوب وأنواع الحلي؛ لأنَّ كل ذلك زينة، ولولا النًّص الوارد في تحريم الذَّهب والإبريسم على الرّجال لكان داخلاً تحت هذا العموم.
ويدخل تحت الطيِّبات من الرِّزْقِ كلُّ ما يُسْتَلَذُّ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخلُ تحته التَّمتع بالنِّسَاءِ والطيب.
روي عن عُثْمَانَ بن مَظْعُون أنَّه أتى النَّبِيُّ ﷺ وقال :« غلبني حديثُ النَّفْسِ عَزَمْتُ أن أخْتَصِي، فقال : مَهْلاً يا عثمان، إن خصاء أمتى الصِّيام، قال : إنَّ نَفْسي تحدثنى بالترهب، فقال : إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي القُعُودُ في المساجِدِ لانتظار الصلاة فقال : تُحَدِّثُني نَفْسي بالسِّياحَةِ، فقال : سيَاحَةُ أمَّتِي الغَزْوُ والحجُّ والعُمْرَةُ، فقال إنَّ نَفْسِي تَحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِمَّا أمْلِكُ، فقال : الأوْلَى أنْ تَكْفِي نَفْسَكَ وعيالَكَ، وأنْ تَرحم اليتيم، والمساكِينَ، فتُعْطِيَهُ أفضل مِنْ ذلك، فقال : إنَّ نَفْسِي تحدِّثُنِي أنْ أطلِّق خَوْلَةَ، فقال : إنَّ الهِجْرَةَ في أمَّتِي هِجْرَةُ ما حرَّم الله، فقال : إنَّ نَفْسِي تُحدِّثُني ألاَّ أغْشَاها، فقال : المُسْلِمُ إذا غشي أهْلَه أو ما مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فإنْ لَمء يُصِبْ من وقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَداً كان لَهُ وصيفٌ في الجَّنةِ، وإنْ كان لَهُ وَلَدٌ مات قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ كَانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ وفرحاً يَوْمَ القيامةِ، وإن مات قَبْلَ أن يَبْلُغَ الحنث كان لَهُ شَفِيعاً ورَحْمَةً يَوْمَ القيامةِ، قال : فإن نَفْسِي تحدثني إلاَّ آكل اللحم قال مَهْلاً إني آكُلُ اللحم إذا وَجَدْتثهُ ولو سألت الله أن يطعمنيه فعل. قال : فإن نفسِي تُحَدِّثُنِي ألاَّ أمَسَّ الطِّيبَ، قال : مَهلاً فإن جِبْريلَ أمَرَنِي بالطِّيب غبّاً وقال : لا تَتْرُكْه يوْمَ الجُمعَةِ، ثم قال : يا عُثْمَانُ : لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَمَاتَ قبل أنْ يتُوبَ صَرَفَت الملائكةُ وجْهَهُ عَنْ حَوْضِي »
وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ هذه الشَّريعةِ هي الكاملة، وتدل على أن جميع الزِّينة مباح مأذون إلا ما خصَّه الدليل.
فصل في إباحة المنافع لأبن آدم
هذه اليةُ تقْتَضي حلَّ كلِّ المنافع، وهو أصلٌ معتبر في جميع الشريعة؛ لأنَّ كلَّ واقعة إمَّا يكون النَّفع فيها خالصاً أو راجحاً، أو يتساوى فيها الضَّرر والنَّفع، أو يرتفعان.