وقدَّره أبو حيَّان على حَذْفِ مُضَافِ، فقال : أي : آتيناها إبراهيم مُسْتَعْلِيَةً عل ىحُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرةً لها وهذا أحسن.
ومنع أبو البقاء أن تكون مُتعلِّقَةً ب « حجتنا » قال : لأنها مَصْدَرٌ و « آتَيْنَاهَا » خَبَرٌ أو حالٌ، وكلاهما لا يفصل به بين المَوْصُولِ وصِلَتِهِ.
ومنع أبُو حيَّان ذلك أيْضاً، ولكن لكون الحُجَّةِ لَيْسَتْ مَصْدَراً.
قال : إنما هو الكلامُ المُؤلَّفُ للاستلال على الشيء، ثم قال : ولو جعلناها مَصْدَراً لم يَجُزْ ذلك أيضاً؛ لأنه لا يُفْصَلُ بالخبرِ، ولا بمثل هذه الحال بين المصدرِ ومطلوبه.
وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء نظرٌ؛ لأنَّ الحالَ وإن كانت جُمْلَةً لَيْسَتْ أجْنَبِيَّةً حتَّى يُمْنَعُ الفَصْلُ بها؛ لأنها من جملة مَطْلُوباتِ المصدر، وقد تقدَّم نَظِيرُ ذلك بأشبع من هذا.
قوله :« نرفع » فيه وجهان :
الظاهر منهما : أنها مُسْتأنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب.
الثاني : جوَّزَهُ أبو البقاءِ، وبدأ به - أنها في مَوْضَعِ الحالِ من « آتيناها » يعني من فاعل « آتْيْنَاهَا »، أي : في حال كوننا رَافِعِينَ، ولا تكون حالاً من المفعولِ؛ إذ لا ضمير فيها يَعُودُ إليه.
ويُقْرأ « نَرْفَعُ » بنون العَظَمَةِ، وبياء الغَيْبَةِ، وكذلك « نَشَاء » وقرأ أهل الكُوفة :« دَرَجَاتٍ » بالتَّنْوين، وكذلك التي في يوسف [ آية ٧٦ ] والباقون بالإضافة فيهما، فقرءاة الكوفيين يُحْتَمَلُ نَصْبُ « درجات » فيها من خمسة أوجه :
أحدها : أنها مَنْصُوبَةٌ على الظَّرْفِ، و « مَنْ » مفعول « نرفع » ؛ أي : نرفع من نَشَاءُ مراتب ومنازل.
والثاني : أن يَنْتَصِبَ على انه مفعولٌ ثانِ قُدِّم على الأوَّلِ، وذلك يحتاج إلى تَضْمين « نرفع » معنى فعل يتعدَّى لاثنين، وهو « نُعطي » مثلاً، أي : نعطي بالرفع من نشاءُ درجاتٍ، أي : رُتَباً، فالدَّرجاتُ هي المرفوعة لقوله :﴿ رَفِيعُ الدرجات ﴾ [ غافر : ١٥ ].
وفي الحديث :« اللَّهُمَّ ارفَعْ درَجَتَهُ في عِلِّيِّينَ » وإذا رُفَعت الدرجة فقد رُفِعَ صَاحِبُهَا.
والثالث : يَنْتَصِبُ على حَذْفِ حرف الجرِّ؛ أي : إلى منازل، أو إلى درجات.
الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييزِ، ويكن مُحَوَّلاً مِنَ المَفْعُولِيَّةِ، فتؤول إلى قراءة الجماعة؛ إذ الأصل :« نرفع درجاتِ من نشاءُ » بالإضافة، ثُمَّ حُوِّلَ كقوله :﴿ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ [ القمر : ١٢ ]، أي : عيون الأرض.
الخامس : أنها مُنْتَصِبَةٌ على الحالِ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ، أي : ذوي درجات، ويشهد لهذه القِراءةِ قوله تعالى :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ] ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ].
وأما قراءة الجماعة : ف « درجات » مفعول « نرفع ».
فصل في معنى الدرجات
قيل : الدَّرَجَاتُ درجاتٌ رفيعة؛ لأنها تُوجِبُ الثَّوابَ العظيم.
وقيل : نرفع درجات من نَشَاءُ بالعلم والفَهْمِ والفضيلة والعقلن كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهْتَدَى. والخِطَابُ في « إنَّ ربَّكَ » للرَّسُولِ محمد ﷺ.
وقيل : للخليل إبراهيم، فلعى هذا يَكُونُ فيه التِفَاتٌ من الغيبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تَشْرِيفٍ له وقوله :« حَكِيمٌ عليمٌ » ؛ اي : إنما نرفع درجاتٍ من نشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشَّهْوَةِ والمُجَازفَةِ، فإن أفعال الله - تعالى - مُنَزَّهَةٌ عن العَبَثِ.