الثالث : أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم.
وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف، وإعماله فيما بعده رفعاً أو نصباً.
وأما الثاني فلأن ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار ﴾ ليس من صفة فاعل « نَزَعْنَا »، ولا مفعوله وهما « نَا » و « مَا » فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهذا واضح.
قال شهابُ الدِّين :« قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليله إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمدرك آخر، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف، وإنْ كانت الحال ليست منه؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين، وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك ».

فصل في شرب المؤمنين من ساق الشجرة.


قال السُّدِّيُّ في هذه الآية : إنَّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شَجَرَةً في أصل ساقها عينان فَيَشْرَبُوا من أحديهما، فينزعُ ما في صدورهم من غلٍّ، وهو الشَّراب الطّهور، ويغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نَضْرَة النَّعيم فلم يشقوا، ولم يسجنوا بَعْدَها أبداً.
﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا ﴾ أي : إلى هذا يعني طريق الجنة.
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ :« معناه هدانا لعمل هذا ثوابه ».
قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ ﴾ قرأ الجماعة :« ومَا كُنَّا » بواو، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير « الشَّامِ » وفيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها « واو » الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة.
والثاني : أنَّها حاليّة.
وقرأ ابن عامر « ما كنا » بدون واو، [ و ] الجملة على ما تقدَّم من احتمال الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشَّاميين كذا، فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.
ووجه قراءة ابن عامر أنَّ قوله :﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولاا أَنْ هَدَانَا الله ﴾ جار مجرى التَّفْسِيرِ لقوله :« هَدَانَا لِهَذَا »، فلما كان أحدهما غير الآخر؛ وجب حذف الحرف العاطف.
قوله :﴿ لولاا أَنْ هَدَانَا الله ﴾ « أن » وما في جيزها في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر محذوف على ما تقرَّر، وجواب « لَوْلاَ » مدلولٌ عليه بقوله :« ومَا كُنَّا » تقديره : لولا هدايته لنا موجودة لشقينا، أو ما كنا مهتدين.

فصل في الدلالة في الآية


دلّت هذه الآية على أنَّ المهتدِي من هداه الله، وإنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ. ثم نقول : مذهب المعتزلة أنّ كلَّ ما فعله الله في حقّ الأنبياء، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حقِّ جميع الكُفَّارِ والفسَّاقِ، وإنَّما حصل الامتيازُ بين المؤمن والكافر، والمحقّ والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه، فكان يجب عيله أنْ يحمد نفسه؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان، وهو الذي أوصل نَفْسَهُ إلى درجات الجنان، وخلَّصها من دركاتٍ النِّيرانِ، فلمَّا لم يحمد نفسه ألْبَتَّةَ إنَّما حمد الله - تعالى - فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى.


الصفحة التالية