وثالثها : قوله :﴿ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر ﴾، وهو أيضاً إشارة إلى كمال قُدْرَتِهِ، وحكمته.
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ : أوَّلُ الآية إشارة إلى ذِكْرِ ما يَدُلُّ على الوُجُودِ والقدرة والعلم، وآخر الآية يَدُلُّ أيضاً على هذا المطلوب، وإذا كان كذلك فقوله :﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾ يَجِبُ أيضاً أن يكون دليلاً على كمالِ القُدْرَةِ والعلم؛ لأنَّهُ لو لم يَدُلَّ عليه، بل كان المراد كونه مستقِرّاً على العَرْشِ لا يمكن جعله دليلاً على كَمَالِهِ في القُدْرَةِ، والعلم، والحكمة، وليس أيضاً من صِفَاتِ المَدْحِ والثَّنَاءِ، لأنَّهُ تعالى قادر على أن يُجْلس جميع البَقِّ والبَعُوضِ على العرش، وعلى ما فَوق العرش، فثبت أنَّ كونه جالساً على العَرْشِ ليس من دلائل إثبات الذَّاتِ والصِّفاتِ، ولا من صِفَاتِ المَدْح والثَّنَاءِ، فلو كان المراد من قوله :﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾ كونه جالساً على العرش، لكان ذلك كلاماً أجْنَبِياً عمّا قبله وعمّا بعده، وذلك يوجب نِهِايَةَ الرَّكاكةِ؛ فثبت أنَّ المراد منه ليس ذلك بَلِ المُرَادُ منه : كمال قدرته في تَدْبير المُلْكِ، والملكوت، حتّى تصير هذه الكلمة مُنَاسِبَةٌ لما قبلها، ولما بَعْدَهَا، وهو المَطْلُوبُ.
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ : إنَّ قولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾ من المُتشابِهَاتِ التي يجب تأويلها، وللعلماء هاهُنَا مذهبان.
الأول : أن يُقْطَعَ بكونه تعالى مُتَعَالِياً عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل الآية على التَّفْصِيل، بل نُفَوِّض عِلْمَهَا إلى الله - تعالى - ونَقُولُ : الاستواءُ على العَرَشِ صفةٌ لله - تعالى - بلا كيف يَجِبُ على الرَّجُلِ الإيمان به، ونَكِلُ العلم فيه إلى الله - عزَّ وجلَّ -، وسأل رجلٌ مَالِكَ بْنَ أنَس عن قوله :﴿ الرحمن عَلَى العرش استوى ﴾ كيف استوى فأطرق رَأسَهُ مليّاً، وعلاه الرحضاء، ثم قال : الاستواءُ مَجْهُولٌ، والكيف غَيْرُ مَعْقُولٍ، والإيمانُ به وَاجِبٌ، والسُّؤالُ عند بدعة، وما أظُنُّكَ إلا ضالاًّ، ثم أمرَ به، فأخرج.
ورُوِيَ عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وسفيان بْنِ عُيَيْنَةَ، وعَبْدِ الله بْنِ المُباركِ، وغيرهم من علماء السُّنَّة في هذه الآيات التي جاءت في الصِّفاتِ المتشابهة، أنْ نُوردَهَا كما جاءت بلا كَيْف.
والمَذْهَبُ الثَّانِي : أن نخوضَ في تَأويلهِ على التَّفْصيلِ، وفيه قولان :
الأول : ما ذكره القَفَّالُ - رحمه الله - فقال : العَرْشُ في كلامهم : هو السريرُ الذي يجلس عليه المَلِك، ثم جعل العرش كِنَايَةً عن نَفْسِ المُلْكِ.
يقال : ثلَّ عَرْشُهُ أي : انتقض مُلْكُهُ وَفَسَدَ، وإذا استقام له ملكه واطّرد أمْرُهُ وحكمه قالوا : اسْتَوَى على عَرْشِهِ واستقرَّ على سرير مُلْكِهِ، وهذا نظيرُ قولهم للرَّجُلِ الطويل : فلان طَوِيلُ النِّجَادِ، وللرَّجُلِ الذي تكثر أضْيَافُهُ : كثيرُ الرَّمَادِ وللرَّجُلِ الشِّيْخ فلان اشتعَلَ الرَّأسُ منه شَيْباً، وليس المرادُ بشيء من هذه الألْفَاظِ إجراءَها على ظَوَاهِرهَا إنَّمَا المُرَادُ منها تعريف المَقْصُود على سبيل الكِنَاية، فكذا هاهنا المُرَادُ من الاستواءِ على العَرْشِ نفاذُ القُدْرَةِ وجريان المشيئَة، كما إذا أخبر أنَّ له بيتاً، يجب على عِبَادِهِ حجُّهُ، فَهِمُوا منه أنَّهُ نصب لهم موضعاً يَقْصِدُونَهُ لمسألة ربِّهِمْ، وطَلبِ حوائجهم، كما يقصدون بيوتَ المُلُوكِ لهذا المطلوب، ثم عَلِمُوا منه نَفْيَ التَّشبيه، وأنَّهُ لم يجعلْ ذلك البيتَ مَسْكناً لنفسه، ولم ينتفع به في دَفْع الحرِّ والبرْدِ عن نفسه، وإذا أمرهم بِتَحْميدِهِ، وتَمْجِيدِهِ؛ فهموا منه أنه أمرهم بنهايةِ تَعْظِيمهِ، ثمَّ عَلِمُوا بعقولهم أنَّهُ لا يفرح بِذلِكَ التَّحْمِيدِ والتَّعْظِيم، ولا يغتم بتركه، وإذا عُرِفَ ذلك فَنَقُولُ : إنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرض كما أراد وشاء من غير مُنَازعٍ، ولا مدافع، ثمَّ أخبر بعده أنَّهُ استوى على العَرْشِ، [ أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثم استوى على العرش ]، أي بعد أنْ خلقهما استوى على عرش الملك والجلال.