٢٤٨٧ -...................... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
قال شهابُ الدِّين :« وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر، بل يجيزه في السَّعَةِ ».
وقال الفرَّاءُ : قريبةٌ وبعيدةٌ : إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون : فلانٌ قريبة مني في النَّسَبِ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان؛ لأنَّ قريباً وبعيداً قائم مقام المكان فتقولُ : فلانة قريبة وقريبٌ، وبعيدة وبعيد.
التَّقديرُ : هي في مكان قَريبٍ وبعيد؛ وأنشد :[ الطويل ]
٢٤٨٨ - عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال :« هذا خطأ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما ».
قال شِهَابُ الدِّين : وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ.
قال امْرُؤ القَيْسِ :[ الطويل ]
٢٤٨٩ - لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وفي القرآن :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً ﴾ [ الأحزاب : ٦٣ ].
وقال أبو عبيدة :« قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفاً لها، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ، ومثلُها لفظة بعيد أيضاً » إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال :« لأنَّهُ لو كانت ظَرْفاً لانتصب كقولك :» إنَّ زَيْداً قريباً منك « وهذا ليس بِخَطَأ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ : زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو :» [ أن قريباً ] منك زيد « أن » قريباً « اسم » إنّ «، و » زيدٌ « خبرها، وذلك على الاتِّسَاع ».
و « مِنَ المُحْسِنِينَ » متعلِّقٌ ب « قَرِيبٍ »، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قرباً من الآخرة وبعداً من الدُّنْيَا، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل، والإنسانُ في كلِّ ساعة لحظة يَزْدَادُ بعداً عن الماضي، وقرباً من المُسْتَقْبَل.
قال الشِّاعِرُ :[ الطويل ]
٢٤٩٠ - فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ
ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعداً في كلِّ سَاعَةٍ، والآخرة تزداد قُرْباً في كلِّ سَاعَةٍ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت، لا جرم قال الله - تعالى - :﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين ﴾.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قالت المعتزلةُ : العَفْوُ عن العذابِ رَحْمَةٌ، والتَّخلُّصُ من النَّارِ بعد الدُّخول فيها رَحْمَةٌ [ فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين ] فوجب ألاَّ يحصل لهم العفوُ عن العقاب والخلاص من النَّارِ.
والجوابُ : أنَّ من آمن بالله وأقرّ بالتَّوْحيدِ والنُّبوَّةِ، فقد أحْسَنَ بدليل أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وقت الضَّحْوَةِ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمَّةُ على أنَّهُ دخل تحت قوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى ﴾ [ يونس : ٢٦ ] وهذا لم يَأتِ بِشَيْءِ من الطَّاعات سوى المعرفة والإقْرَارِ.


الصفحة التالية
Icon